أصدرت سلسلة "حكاية مصر"؛ التى تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة، طبعة جديدة لكتاب "تكوين مصر" للمؤرخ محمد شفيق غربال، والكتاب يتناول حرص مصر منذ فجر التاريخ على توطيد علاقتها بالمجتمعات الكبرى؛ مما أدى لتأثيرها فيها وتأثَّرها بها، لا سيما أن التغير الاجتماعي الذي طرأ عليها في مختلف العصور كان كفيلًا بإكسابِها قدرةً على الصمود في وجه تحديات وعوائق حركتي التاريخ والجغرافيا السكانية. ويرى محمد شفيق غربال في هذا الكتاب أن التفاعل الحادث بين مبدأ الثبات ومبدأ التغيير في المجتمعات هو الذي يصنع التاريخ. ويرى الكثير من الكتاب أن غربال وضع فى هذا الكتاب يده على مفاتِيح الشخصية المصرية بعناية، فبرغم ما أورده من موضوعات متفرِّقة الأفكار، إلا أنها تترابط في مضمونها؛ لتبرز لنا معالم وطن كبير، ضرب بجذوره في أعماق التاريخ، وهذا ما جعله يقرر أن مصر هي "هبة المصريين"، وليست هبة النيل كما قال قديمًا «هيرودوت»- "أبو التاريخ" كما يصفه غربال. اسم الكتاب قد يبدو "مخادعا" خاصة لمن قد يخطر بأذهانهم المقارنة مع وقع عنوان وكتاب آخر، وهو "شخصية مصر" للدكتور جمال حمدان؛ فكتاب حمدان الذى يقع فى أربعة أجزاء ضخمة، بحث جغرافى أصيل ولافت للغاية، بينما كتاب غربال هذا لا يتجاوز عدد صفحاته الستين صفحة، وهو فى الأساس 10 أحاديث أذاعها محمد شفيق غربال باللغة الإنجليزية من دار الإذاعة المصرية ونقلها إلى العربية بمعاونة محمد رفعت، ومن عناوين تلك الأحاديث، وهى: مصر هبة المصريين، الاستمرار والتغيير فى تاريخ مصر، الحكومة والمجتمع فى مصر، الإنسان والمجتمع فى مصر، المدينة والريف فى تاريخ مصر، مصر والعهد القديم، مصر والهيلينية، مصر والإسلام، مصر والغرب، يتبين لنا أن الكتاب يتناول علاقة مصر بالمجتمعات الكبيرة ومدى حرصها عبر التاريخ على إقامة جسور اتصال معها، ويتتبع التغير الاجتماعي الذي طرأ عليها في مختلف العصور بداية من العصر الجليدي، ومرورا بالعصور الفرعونية واليونانية والرومانية والإسلامية حتى العصر الحديث. ومحمد شفيق غربال (1894- 1961)، مؤرخ، وأستاذ جامعى، ولد فى الإسكندرية وتلقى بها تعليمه الابتدائي فالثانوي، ثم انتقل إلى القاهرة والتحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها عام 1915، ثم أوفد إلى إنجلترا لإكمال دراسته في جامعة ليفربول، وأشرف على رسالته لنيل الماجستير المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي، وكانت الرسالة بعنوان "بداية المسألة المصرية وظهور محمد علي". بعد عودته إلى مصر، عُيِّن مدرِّسًا للتاريخ بمدرسة المعلِّمين العليا، وظلَّ بها إلى أنْ نُقِل أستاذًا مُساعِدًا للتاريخ الحديث بكلية الآداب بجامعة (فؤاد الأول) القاهرة، وما لبث أنْ رُقِّي إلى كرسي أساتذة التاريخ الحديث عامَ 1936؛ ليكون بذلك أولَ مِصريٍّ يتولَّى منصبَ كرسي الأستاذية في قسم التاريخ بالكلية. وفي عام 1939م عُيِّن وكيلًا لكلية الآداب، ثم انتُخِب عميدًا لها، وشغل مناصبَ في عددٍ من الوزارات. قام بإنشاء متحف الحضاره المصريه (1947)، والجمعية المصرية للدراسات التاريخية. ترأس وفد مصر فى الجمعية العامة لليونيسكو (1948)، وأختير عام 1951 لعضوية لجنة من 12 مؤرخا من أبرز مؤرخي العالم ليكونوا مستشارين لليونسكو في شئون تاريخ العالم، كان مديرا لمعهد الدراسات العربية العليا (1956-1961). وأشرف على إصدار الموسوعة العربية الميسرة (1956-1961)، وكان عضوًا في مَجمع اللغة العربية بالقاهرة والمَجمع العلمي المصري. وقد مُنِح جائزةَ الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، بصفته رائدًا لمدرسة علم التاريخ الحديث في مصر والعالَم العربي. ولغربال عددٌ من المُؤلَّفات والتحقيقات التاريخية القيِّمة؛ حيث حقَّق مخطوطًا بعنوان «ترتيب الديار المصرية في عهد الدولة العثمانية». ومن بين أهم كتب غربال نذكر: كتاب «محمد علي الكبير»، وفيه يعتبر أن والي مصر واحد من أعلام الإسلام في القرون المتأخرة، ويؤرِّخ لأحداث عصره وما سبقها من ممهِّدات لتوليه الحكم. ويُعنى ببسط وشرح منهج الباشا وفكره الاستراتيجي؛ كيف كانت نظرته إلى مصر وأهلها، وكيف وضع رفعتها نصب عينيه؛ حبًّا فيها، وليس من أجل مجده الشخصيِّ فحسب، وعلامَ ارتكز مشروعه النهضويُّ الرامي لإخراج البلاد من طور السكون إلى ديناميكية الحركة واستمرارية النمو، فأدخل الإصلاحات على الأنظمة الإدارية والاقتصادية والتعليمية والصحية، واستحدث في سبيل ذلك وسائلَ لم تَعْهَدْها مصر من قبل. ولم يقف محمد علي الكبير عند حدِّ تقوية الداخل، بل اتضحت حكمته وحنكته في التعامل مع الخارج، وبلغ الجيش المصري في عهده مبلغًا عظيمًا من القوة والعدة والعدد." أما فى كتابه: «من زاوية القاهرة» الذى كان بدوره سلسلة إذاعية حملت ذات العنوان، جمعها ليصدرها فى كتاب، فيصف القاهرة بأنها: مدينةٌ تطلُّ على العالم وتُشرِفُ على تاريخه القديم والحديث، ومنها أخذ يقرأ تاريخ العرب، يدرسه ويتمعَّن فيه، ويقدِّمه- للمستمع- للقارئ. وفى كتابه "منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم" يدرس محمد شفيق غربال كيف "نجح العرب في التخلُّص من التبعية العثمانية عَقِبَ اندلاع الحرب العالمية الأولى، بعد أن عاشوا تحت رايتها زُهاء أربعة قرون. والفضل في ذلك يعود إلى عوامل تاريخية ساهمت بشكل كبير في زيادة الوعي القومي العربي والمطالبة بالإصلاح والتجديد؛ ذلك المطلب الذي بدأ يتبلور منذ نهايات القرن التاسع عشر، في حين أنها ما لبثت أن وقعت فريسة لأطماع الدول الاستعمارية، وبالأخص بريطانيا وفرنسا؛ فقد كان المستعمر يتحيَّن الفرصة للانقضاض على تركة السلطان العثماني الذي لُقِّب ب«رجل أوروبا المريض». عن كلِّ هذا وأكثر، يُحدِّثنا «شفيق غربال» في هذه المحاضرات، التي تتناول بالتفصيل مواضعَ الاتفاق وتلاقي المصالح بين الدولة العثمانية وأوروبا، وكيف أصبحت الأقطار العربية ولاياتٍ عثمانية، وكيف ظلَّت آثار تلك الحقبة من تاريخها باقية بعد عقود من زوال الخلافة".