كان إيمان المصريين القدماء بالبعث وتحنيطهم أجساد موتاهم تصرفا طبيعيا ومنطقيا جدا. كانوا يريدون الحفاظ على هذا الجسد لأنه المادة المتاحة التي لازالت بين أيديهم، والأثر الباقي من الميت، قبل أن ينتقل للعالم الآخر. اكتشاف العالم الآخر، بتأمل الحياة وتعاقبها، أدى لاكتشاف هذا الزمن الخالد، الذي تحتل فيه الجنة المكان الجوهري. "إن أبدانكم سوف تقوم من أجلكم.. إن عظامكم سوف تلتحم من أجلكم.. سوف ينزعون عنكم أكفان المومياء وتلقون جانبًا أقنعة المومياء.. تحرروا مما يضجركم كى تتمتعوا بالحقول «يارو» الجنة".* مجموعة اكتشافات تبلورت داخل العقيدة الأوزيرية التي ارتبطت بالأبدية، وربطت مابين دورة الزمن ودورة الحياة. وكان "أوزير" هو حاكم هذه الأبدية.** *** للوصول إلى هذه الأبدية، أو الخلود، لابد أن نعبر بهذا الجسر الذي يفصل بين الحياة والآخرة، لذا تم اكتشاف التحنيط. عبر التحنيط تعود الروح التي فارقت عند الموت، لتتعرف على الجسد الذي سكنت فيه، بعد أن افترقا لفترة من الزمن. لهذا السبب لا بد من أن يكون هذا الجسد سليما، فالروح برغم أن لها جوهرا متساميا يعلو على الجسد، ويراقبه من أعلى، فهي ليست بهذا الذكاء أو اللماحية لكي تتعرف على جسدها لو تحلل أو أصابه الفساد. الروح تريد البيت الذى سكنت، واختلطت بأعضائه كما هو وبحذافيره وتفاصيله وشكله، ولو حدث أي تغير ولو بسيط فستتوه عن الوصول لهذا البيت القديم. *** الروح بعد انفصالها، كما يرى المصريون القدماء، تعود بنفس طبائعها وقدراتها وشخصيتها، التي كانت عليها في الحياة، ولا تكتسب أي مرونة أو قدرة على الترميز، أو اللماحية، أو تتعالى على هذا الجسد بمكانها العلوي الذي تنتظر فيه. فالاثنان، الروح والجسد، يصنعان هوية الميت، وباختلاف أصل كل منهما. "فقد تخيل المصري القديم، أن إله الخلق شكل البشر من جزأين أساسيين، أولهما المادة أي الجسم الطبيعي، والذي يحوي بداخله خاصية قبول عوامل الفناء والتحلل، والثاني جوهر الحياة أي الروح وكان مستقرها السماء بعد الموت. وبحلول الموت يفترق الجسد والروح، مدة زمنية محدودة ثم تحل الروح في الجسد ثانية يوم الدفن لكي ترشدها في رحلة العالم السفلي". *** التحنيط، وإن عمل على الجسد، فهو يبغي هذه الروح الجوهرية التي فارقت الأرض وتنتظر في السماء، يعمل من أجل استعادتها، كأنه يصنع من الجسد طعما يضمن به دخول الروح في شباكه. التحنيط يتحول إلى مفهوم روحي أكثر منه اكتشاف عملية كيمائية. *** الموت لا يؤثر في الروح، ولا يغير من شكلها، ربما لأن ليس لها شكل، ولا يصيبها الفساد، لأنها خالدة، لأنها جزء من روح الله. الروح هي قبل الموت هي بعد الموت، لذا عند خروجها من الجسد تنتظر في تلك الاستراحة السماوية الانتهاء من تجهيز بيتها القديم لتعود إليه، ويبدآن حياة جديدة. *** الخلود كما هو في الكون وتعاقب الحياة والفصول، والليل والنهار، مفصول عن الإنسان، هو أيضا جزء منه متمثل في هذه الروح. *** قد يكون الجسد هو "الصورة" التى تدخل فيها الروح. وهذا هو الاعتقاد المصري القديم، أن يحتفظ بهذه "الصورة". وبعد عدة قرون ستتحول هذه "الصورة" إلى صورة حقيقية، وليست فقط مجازية، عندما سيقومون برسمها ويضعونها على كفن الميت لتتعرف عليه روحه بعد موته كما في بورتريهات الفيوم. في هذه الحالة ستكون الروح أكثر ذكاء، أو لها حس فني، وأقل في مطالبها التي ستتعرف بها على بيتها القديم، فهي لا تريد الجسد بكل حذافيره، ولكن تريد إشارة أو رمزا، من هذا الجسد وهو صورته، لتبدأ رحلتها في التعرف عليه. بدأت الصورة مع العصور الرومانية ومن بعدها العصور القبطية لتلعب دورا أساسيا لترشد الروح. *** ولكن هذا الانقسام الذي يسببه الموت، ألا يشير إلى شيء ما؟ ألا يشير إلى أننا نعيش الحياة، وكما عاشها المصري القديم، ونحن نحمل هذا الانقسام بداخلنا. وأحيانا نأتي بالموت، في صور كثيرة، حتى نستبق، ونحن ما زلنا نعيش هذه الصورة النهائية لحياة، كي نكون أقل خوفا في تلك اللحظة؟ *** الموت يفك الوحدة بين الروح والجسد، يفرق بينها كمرحلة وسيطة، ليأتي التحنيط ويصحح خطأ الموت أو تأثيره، فالموت يجلب الفساد، لأنه فعل يدمر الحياة نفسها، لذا تعاملت الديانة المصرية القديمة معه كأنه مؤقت وعابر ويمكن التعايش معه ومعالجة أخطائه، لأنها ديانة تبغي الأبدية والخلود، وترى الكون من هذا الجانب المتفائل والعميق والحساس. *** فى الديانات السماوية الأخرى، الجسد يفنى ويتعفن، ولا أهمية لهذه "الصورة"، وليس هناك رغبة في الاحتفاظ بها. فالإيمان بالبعث وعودة الحياة لهذا الجسم الميت، تحول إلى إيمان بإله قوى قادر على بعث الموتى ورد الحياة من هذا الرميم، حتى ولو فنى الجسد. هو إيمان في غاية القوة به مخاطرة، لأن ليس هناك درجة وسيطة للجسد بين الحياة والبعث، سوى قدرة الإله الذي أنشأ هذه الحياة. الإله هو الذي سيجمع الجسد، الذي فنى، مع الروح الخالدة، لذا لم يعد للتحنيط هدفا، وتحول هذا المفهوم ودخل في إثبات قدرة الإله. إنه إيمان مجرد به ثقة كاملة بالإله، الذي أصبحت له صورة أكثر انفصالا واكتمالا، ولا يتشارك مع البشر فى أى شىء، بعكس "إله" المصريين القدماء، أوير، الذي ما زال يتشارك مع البشر فى بعض الصفات والشكل. *** الاعتقاد الذي كان وراء التحنيط والحفاظ على صورة الجسد، أن الإنسان نفسه مقدس، وقد خلق على صورة الإله، لذا جسده مقدس لأن به جزء خالد، جوهري، هو الروح. أما في الإسلام، على سبيل المثال، فالإنسان خليفة الله على الأرض، هذا الأثر الذي يعكس الأصل المقدس، الذي خرجنا منه جميعا. *** شئنا أم أبينا، نحن نيجاتيف نحمل صورة للكون والطبيعة والأرض والسماء داخلنا، حتى ولو كنا لاحقين على ميلاد كل هذه الأشياء، فارتباطنا بأصل مقدس، جعلنا سابقين ونرى الكون قبل خلقه، لأننا نحمل صورة منه داخلنا، ثم نحوله لصورته الموجبة خلال حياتنا على الأرض. ويمكن أيضا أن تظل صورة نيجاتيف إلى الأبد. ربما هذه الصورة التي نملها داخل هذه الإجساد هي التي تعود وتتعرف على حياتها، في مستقبل قادم، ولا تفنى أبدا، وهي التي تقابل رحلة المومياء عن المصريين القدماء. ربما تكون صورة الحياة هذه هي رحلة المومياء القديمة، ولكن بعد أن أصبحت اكثر تجريدا وشفافية. ................................................................................................... * كتاب البوابات هو نص جنائزي مصري قديم يرجع تاريخه إلى عصر الدولة الحديثة. وهذا الكتاب يروي مرور روح المتوفى حديثا في العالم الآخر، وهو المقابل لرحلة الشمس من خلال العالم السفلي خلال ساعات الليل. ويكيبيديا- الموسوعة الحرة. **العقيدة الأوزيرية وأثرها عند المصري القديم. صفحة على الفيسبوك. *** كتاب التحنيط. د أحمد صالح- منشورات جماعة حور الثقافية- عام 2000- القاهرة.