تحل اليوم ذكرى ميلاد صلاح عبد الصبور (1931 - 1981)، وهو ليس فقط أحد أهم رواد حركة الشعر العربي الحديث، فهو يتجاوز ذلك، إلى اعتبارات ومجالات أكثر تنوعا، فهو بمثابة رمز من رموز الحداثة العربية، خاصة لجهة التفاعل مع نتاج الفكر الغربى الفكرى والأدبى، وهو أيضا متأثر بالتراث العربى فى مناح عدة فيه، ثم إنه واحد من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة في التأليف المسرحي، وفي التنظير للشعر الحر. وُلد الشاعر محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكى، في 3 مايو 1931 في إحدى قرى شرقي دلتا النيل، القريبة من مدينة الزقازيق- محافظة الشرقية، وتلقى تعليمه في المدارس الحكومية، ثم درس اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، وفى مرحلة الدراسة تأثر بشدة بأستاذه الرائد المفكر الشيخ أمين الخولي (1 مايو 1895 - 9 مارس 1966)، وقد أعجب الأستاذ بالتلميذ ونبوغه فضمه إلى جماعة "الأمناء" التي كوّنها، ثم إلى (الجمعية الأدبية) التي ورثت مهام الجماعة الأولى، وكان للجماعتين تأثير كبير على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر، تأثير الخولى فى عبد الصبور قد يجد التعبير الدال عنه فى عبارة الخولى الشهيرة: "أول التجديد هو قتْل القديم فهمًا"، والقتل هنا ليس مفهوما بالمعنى المادى بالطبع، القتل أقرب للهضم والتجاوز، للتعامل مع القديم باعتباره مجرد "وجهة نظر"، مجرد تصورات عن واقع وبيئة وزمن آخر، وليست تصورات وصياغات سرمدية. كانت المصادر الأولية التى نهل منها عبد الصبور كما يتبين لنا فى هذا المقطع حيث يتحدث عن بدايات مع الشعر والتراث العربى، إلا أنه فى مرحلة مبكرة أيضا تنوعت المصادر التي تأثر بها صلاح عبد الصبور فى عالمه الشعرى والمسرحى والفكرى، وربما فى نمط وخيارات الحياة والمواقف من الناس والعالم، فمن التراث العربى نهل وتأثر بتشكيلة متنوعة من الاتجاهات والأغراض الشعرية، فأخذ من شعر الصعاليك ذلك الموقف المتعالى على المواضعات والحيازات، وقد مزجه بشعر الحكمة العربي، وقد لبث طويلا متأثرا بسيَر وأفكار بعض أعلام الصوفيين العرب، مثل الحلاج وبشر الحافي، اللذين استخدمهما كأقنعة لأفكاره وتصوراته في بعض القصائد والمسرحيات، ثم إنه تأثر بالاتجاهات التجديدية فى الشعر الغربى، فاستفاد من منجزات الشعر الرمزي الفرنسي والألماني (عند بودلير وريلكه) والشعر الفلسفي الإنجليزي (عند جون دون وييتس وكيتس وت.س. إليوت بصفة خاصة)، ثم فى مرحلة متقدمة من عمره أتاحت له فرصة العمل كمستشار ثقافى فى سفارة مصر فى نيودلهي، فرصة التعرف والتفاعل مع كنوز الفلسفات الهندية ومن ثقافات الهند المتعددة. كان صوت عبد الصبور الشعرى مميزا منذ قصائده الأولى التى جمعها فى ديوانه الأول (الناس في بلادي) (1957)، وقد مثل هذا الصوت هزة عنيفة عززت مكانة ما سمي بالشعر العربى الحديث، أو الشعر الحر، أو شعر التفعيلة، حيث تحرر الشعراء من بناء القصيدة العربية التقليدية، فتخلوا عن البيت الشعرى، ووحدة القافية، وغيرها من التقنيات والأساليب الجديدة التى أطلقت حرية الشاعر فى التعبير، وقد هز ديوان (الناس في بلادي) الحياة الأدبية المصرية، ووصل تأثيره إلى باقى الأقطار العربية في ذلك الوقت، بفرادة صوره الشعرية، واستخدام المفردات اليومية الشائعة، وثنائية السخرية والمأساة، وامتزاج الحس السياسي والفلسفي بموقف اجتماعي انتقادي واضح. ثم أصدر عبد الصبور بعد ذلك عدة دواوين، من أهمها: "أقول لكم (1961)"، "أحلام الفارس القديم (1964)"، "تأملات في زمن جريح (1970)"، "شجر الليل (1973)"، "الإبحار في الذاكرة (1977)". وقد أثرى عبد الصبور المسرح الشعرى العربى، وبلغ به، ومعه، مرحلة النضج التام، بعدما رسخ جذوره ورعى بداياته أحمد شوقى، وطوره عبد الرحمن الشرقاوى، فى حين بدأ عبد الصبور منذ مسرحيته "مأساة الحلاج (1964)"؛ التى نال عنها جائزة الدولة التشجيعية عام 1966، مرحلة النضج، وتوالى صعوده إلى الذرى مع مسرحيات: (مأساة الحلاج) (1964)، "مسافر ليل (1968)"، "الأميرة تنتظر (1969)"، "ليلى والمجنون (1971)"، "بعد أن يموت الملك (1975)"، وقد شكلت العروض المسرحية لعدد من هذه المسرحيات علامات فارقة فى تاريخ المسرح المصرى والعربى خلال تلك السنوات. وربما حمل ما كتبه عبد الصبور فى تذييله لنص مسرحية "مسافر ليل" إشارة مهمة إلى طبيعة المصادر التى تأثر بها، وتفاعله مع كل جديد يطلع عليه، كما تخبرنا تلك الكلمات بمدى تفاعل مختلف الفنون والآداب مع بعضها وبعض وتأثير كل منها فى الآخر، فهو يذكر: "منذ خمس سنوات التقيت بالمسرحي العظيم يوجين أونيسكو، في مسرحية الكراسي، حيث كان يعرضها مسرح الجيب القاهري، وما كاد العرض ينتهي حتى كنت قد انتويت أن أدخل عالم هذا الكاتب العظيم، وسعيت إليه من خلال معظم أعماله. وكتبت في مذكراتي الشخصية عندئذ أن اكتشاف عظمة أونيسكو كان من أحلي الاكتشافات التي عرفتها في حياتي. وأضفته إلى ذخائري كما أضفت شكسبير وأبا العلاء وتشيكوف من قبل". يمكننا أيضا أن نلاحظ تأثره بالكاتب الإيطالي "لويجي بيرانديللو"، فى مسرحيتيه: "ليلى والمجنون" و"الأميرة تنتظر"، ثم إن عبد الصبور واصل عبر سنوات عمره الإبداعية القصيرة الكتابة فى أشكال أدبية نثرية، من المقال الصحفى، والنقد، والسيرة الذاتية والأدبية، فأصدر عدة كتب، من بينها: "حياتي في الشعر، أصوات العصر، رحلة الضمير المصري وعلى مشارف الخمسين". وربما كانت حياة صلاح عبد الصبور الوظيفية على تناقضٍ ما مع عالمه الشعرى والأدبى والفكرى، فقد تقلد عددا من المناصب، وعمل بالتدريس وبالصحافة وبوزارة الثقافة، وكان آخر منصب تقلده هو رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب، بالإضافة إلى مساهمته في تأسيس مجلة "فصول" للنقد الأدبي، وقد تركت وظيفته العامة فى الهيئة المصرية العامة للكتاب أثرا واضحا فى علاقته بقطاعات من النخبة المثقفة المصرية والعربية، فقد تصادف أن تكون رئاسته للهيئة فى الوقت الذى بدأت فيه الدولة محاولات التطبيع الثقافى مع إسرائيل، وهو ما كان مرفوضا من قطاعات واسعة من المثقفين، ولأن عبد الصبور كان مسئولا عن تنظيم معرض القاهرة الدولى للكتاب- عام 1981- فقد وضعه هذا فى مواجهة ظاهرة مع هؤلاء، وربما امتد أثر ذلك إلى ليلة وفاته 14 أغسطس 1981، التى تلامست بعض وقائعها مع ظلال من تلك "المعارك". المدهش أن ذلك المنجز الهائل لا نجد له صدى فى مناهجنا الدراسية، ولا خطط مؤسساتنا الثقافية الرسمية، وهكذا تبدو ذكرى صلاح عبد الصبور؛ وغيره فى الواقع، كأصداء خافتة لتاريخ كانت وقائعه ساطعة صاخبة.