"ما تذكُره ليس هو الثورة.. الثورة أنْ تتحرك بالشعب" هذه السطور هى تجسيد لروح الكاتب العظيم صلاح عبد الصبور، وهى من مسرحية "ليلى والمجنون"، فمن يقرأ شعره يشعر بآلامه حين يتألم وفرحه حين يفرح، خاصة هذه المسرحية والتى يفاجأ الجمهور بأن ليلى هى مصر والمجنون هو كل عاشق لتراب الوطن. هو محمد صلاح الدين عبد الصبور يوسف الحواتكى فارس من فرسان الشعر المسرحى، تنوعت مصادره من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة العربي، وتأثر بالشعر الرمزى الفرنسى والألمانى عند بودلير وريلكه كما تأثر أيضا بالشعر الفلسفى. صاغ عبد الصبور الشعر باقتدار وتقنية عالية، حيث جعل من قصائده كائن حى يتكلم وترك العنان لها للتحدث عن نفسها فلا تشعر أنك تقرأ ولكن تشعر أنك تعيش. ولد عبد الصبور فى الزقازيق عام 1931 والتحق بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم اللغة العربية فى عام1947 وفيها تتلمذ على يد الشيخ أمين الخولى الذى ضمه إلى جماعة (الأمناء) التى كوّنها, ثم إلى (الجمعية الأدبية) التى ورثت مهام الجماعة الأولى، كان للجماعتين تأثير كبير على حركة الإبداع الأدبى والنقدى فى مصر. ويُعدّ صلاح عبد الصبور أحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربى ومن رموز الحداثة العربية المتأثرة بالفكر الغربى، كما يعدّ واحداً من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة فى التأليف المسرحى, وفى التنظير للشعر الحر. تنوعت المصادر التى تأثر بها إبداع صلاح عبد الصبور: من شعر الصعاليك إلى شعر الحكمة العربى, مروراً بسيَر وأفكار بعض أعلام الصوفيين العرب مثل الحلاج وبشر الحافى, اللذين استخدمهما كأقنعة لأفكاره وتصوراته فى بعض القصائد والمسرحيات. كما استفاد الشاعر من منجزات الشعر الرمزى الفرنسى والألمانى (عند بودلير وريلكه) والشعر الفلسفى الإنجليزى (عند جون دون وييتس وكيتس وت. س. إليوت بصفة خاصة)، ولم يُضِع عبد الصبور فرصة إقامته بالهند مستشاراً ثقافياً لسفارة بلاده, بل أفاد خلالها من كنوز الفلسفات الهندية ومن ثقافات الهند المتعددة. وقد صاغ الشاعر باقتدار سبيكة شعرية نادرة من صَهره لموهبته ورؤيته وخبراته الذاتية مع ثقافته المكتسبة من الرصيد الإبداعى العربى ومن التراث الإنسانى عامة، وبهذه الصياغة اكتمل نضجه وتصوره للبناء الشعرى. كان ديوان (الناس فى بلادى) (1957) هو أول مجموعات عبد الصبور الشعرية, كما كان أيضًا أول ديوان للشعر الحديث (أو الشعر الحر, أو شعر التفعيلة) يهزّ الحياة الأدبية المصرية فى ذلك الوقت. واستلفتت أنظارَ القراء والنقاد فيه فرادةُ الصور واستخدام المفردات اليومية الشائعة, وثنائية السخرية والمأساة, وامتزاج الحس السياسى والفلسفى بموقف اجتماعى انتقادى واضح. وعلى امتداد حياته التى لم تطُل, أصدر عبد الصبور عدة دواوين, من أهمها: (أقول لكم) (1961), (أحلام الفارس القديم) (1964), (تأملات فى زمن جريح) (1970), (شجر الليل) (1973), و(الإبحار فى الذاكرة) (1977). كما كتب عبد الصبور عدداً من المسرحيات الشعرية, هى: (ليلى والمجنون) (1971) وعرضت على مسرح الطليعة بالقاهرة فى العام ذاته, (مأساة الحلاج) (1964), (مسافر ليل) (1968), (الأميرة تنتظر) (1969), و(بعد أن يموت الملك) (1975). ونُشرت للشاعر كتابات نثرية عديدة منها: (حياتى فى الشعر), (أصوات العصر), (رحلة الضمير المصري), و(على مشارف الخمسين). ويرى الكاتب والناقد الصحفى حزين عمر، أنه من الكتاب الموسوعيين فى ظل وجود قامات عالية من الجيل السابق عليه أمثال طه حسين وأمين الخولى أستاذه والعقاد ومحمد مندور، بل ومن أبناء جيله نفسه: شكرى عياد وعز الدين إسماعيل وعائشة عبد الرحمن رفقاؤه فى جماعة الأمناء، فى هذه البيئة الثرية بالعقول والتحولات السياسية، كذلك ثورة يوليو والصراع مع الاستعمار أبدع صلاح أنماطاً شتى من الكتابة منها المقال الأدبى والدراسة النقدية، والقصيدة الشعرية التى تحققت فيها مواهبه العالية وروحه المتمرد الرافض للقوالب الشعرية الجاهزة والموروثة والتى بلغ بها أحمد شوقى الذروة، فكان لابد لصلاح وبعض أبناء جيله من الخروج من هذا السياق تماماً، فكانت القصيدة التفعيلية التى تصدر صلاح مشهدها مع وجود أدوار لسابقين عليه ومزامنين له: عبد الرحمن الشرقاوى وعلى أحمد باكثير وبدر شاكر السياب وكمال نشأت وعبد المنعم عواد يوسف وغيرهم. وعلى الرغم من هذا الإنجاز لصلاح فى القصيدة، فإن إنجازه الأبرز يتجسد فى المسرح، وتحديداً المسرح الشعرى، لقد وجد فيه عالمه المفتوح الذى لم تغلق أبوابه بعد ولم يعانِ، فالمسرح الشعرى لم يتقدم فيه صلاح زمنيا سوى أسماء قليلة، شوقى وعزيز أباظة وباكثير وربما آخرون غير مشهورين، لكن هؤلاء وتحديداً شوقى وأباظة كان الخلط لديهم بين القصيدة والمسرحية واضحاً وقد تجد عدة قصائد داخل السياق الدرامى يمكن اقتطاعا وفصلها من السياق ولن يتأثر العمل الدرامى، ويبقى هذا العمل متماسكا كقصيدة، وأغانى عبد الوهاب فى مسرحيات شوقى دليل ذلك. صلاح حقق المعادلة الصعبة بأن كتب المسرح الشعرى بأركانه الدرامية: لا غنائية أى ذاتية ولا استطرادات ولا حواشى، مع وضوح فى ابعاد الشخصية الدرامية داخليا وخارجيا واحداث تتصاعد وتنمو. أما مسرحية مأساة الحلاج فيرى أنها تحتاج إلى اطلاع على التاريخ الإسلامى، خاصة فى مجال الفلسفة والتصوف وصراعات المذاهب، وهى صالحة للعرض وللقراءة معاً وبالدرجة نفسها، لأن فيها نوع من الشجن الشفيف والصراعات الداخلية لشخوصها الدرامية، وهذا الجو يلائم الطبيعة الشخصية لصلاح عبد الصبور. أما الشاعر الكبير دروش الأسيوطى رأى أن عبد الصبور أستاذ المسرح الشعرى فى الوطن العربى كله وقد ينافسه البعض فى القصيدة، لكن لم يظهر بعد من ينافسه فى المسرح وتعد مسرحية مأساة الحلاج من أهم نصوصه المسرحية ولقد أخرج عبد الصبور القصيدة من النص المسرحى واستبدلها بحوار شعرى درامى والذى لم نره فى كتاب المسرح الشعرى من قبل. حصل الكاتب الكبير على عديد من الجوائز وإن كانت لا توفى قدره وقامته الأدبية منها جائز الدولة التشجيعية عن مسرحيته الشعرية مأساة الحلاج عام 1966 وبعد وفاته حصل على جائزة الدولة التقديرية والدكتوراه الفخرية فى الآداب عام 1982. وتوفى الكاتب الكبير فى مثل هذا اليوم فى ال13من أغسطس 1981 إثر نوبة قلبية أودت بحياته فى الحال ورحل عن عالمنا تارك لنا ميراثاً أدبياً يعد نبراساً للشباب الصاعد من بعده.