لن يستطيع قارئ رواية "الإوزة البرية" أن يتخلص، بسهولة، من الالتباس إذا عرف مسبقا طرفا من سيرة حياة مؤلفها الروائي الياباني البارز أوجاي مورى، لذلك سيكون مفيدا أن نؤجل الحديث عنها إلى النهاية. جملتان: الأولى هى مفتتح الرواية، والثانية تأتى فى الصفحة قبل الأخيرة منها، تحددان الإطار الزمنى لأحداثها، وزمن كتابتها، هكذا يخبرنا الراوى: هذه حكاية قديمة. وأتذكر بالصدفة أن أحداثها وقعت فى عام 1880... لقد كتبت هذه الحكاية، ولكن بعد حساب الأحداث على أصابع يدى، فقد مر عليها 35 عاما. نصف هذه الأحداث شاهدته من خلال صداقتى الحميمة مع "أوكادا"، ولكن النصف الثانى، سمعته من "أوتاما" بعد أن تعرفت عليها بغير تخطيط منى، بعد رحيل "أوكادا". هنا ثلاث شخصيات: الراوى و"أوكادا" طالبان يدرسان فى كلية الطب جامعة طوكيو، لن نعرف اسم الراوى، وسنعرف القليل عنه وعن عائلته، فى الفصول الثلاثة الأولى نتعرف على السمات الرئيسية لشخصية "أوكادا"، حيث يصادف "امرأة" لن نعرف أن اسمها "أوتاما" ولن نعرف تفاصيل حياتها إلا فى الفصل الرابع، حيث تصبح محور السرد، ولن يعود الراوى ل"أوكادا" إلا فى الفصل التاسع عشر، حيث تتقاطع كل خيوط الرواية مندفعة بقوة هائلة نحو الذروة؛ فالخاتمة غير المتوقعة تماما. وهنا -أى بين تحديد بداية أحداث الرواية وكتابتها- تجرى وقائع تحولات كبرى فى الحياة اليابانية، فى المبانى والسلع والمفاهيم والعلاقات حدثت فى الزمن الفاصل بين بداية الأحداث وكتابتها. يبدو "أوكادا" نموذجا مثاليا لطالب جامعى: جميل، رياضى، مثقف، وفى بعض اهتماماته نلاحظ طبيعة الثقافة الرائجة، وربما المهيمنة على الشباب، فهو يحب قصص الصين التاريخية.. وخاصة سيرة البطل العسكرى، وكان متأثرا بقراءته اليومية لأشعار الحب والغرام، مثل كتابات عصرى "مينج" و"شينج" فى الصين الذين اتصفوا بالعاطفية والقدرية. شاهد بالصدفة امرأة عائدة من الحمام الشعبى.. وجهها يعطى شعورا ما بالوحدة،..، وبعد مرور أسبوعين، وعندما كان مارا أمام نافذة بيتها فى مساء أحد الأيام، قام بلا وعى بخلع قبعته والانحناء لتحيتها. عندها تحول وجهها الأبيض الضعيف فورا إلى اللون الأحمر، وتحول الوجه من ابتسامة الوحدة إلى ابتسامة مشرقة. وصار بعد ذلك "أوكادا" ينحنى لتحية "امرأة النافذة" كلما مر من هناك. هذا كل ماحدث بين "أوكادا" وفتاة النافذة: نظرة، خلع قبعة وانحناءة للتحية، وابتسامة، لكنه "فهم من خلال منظر البيت ومظهر المرأة نفسها أنها على الأرجح محظية ثرى فى منزل منفصل خاص بها". مع "فهمه" هذا يتركه الراوى طوال خمس عشر فصلا، ويعرفنا أولا على: "سويزو" الذى كان يعمل "فراشا" يجلب المشتريات للطلاب ثم أصبح مرابيا محترفا، ويتساءل الراوى، ويجيب: من أين له برأس المال؟ من المستحيل أن يكون رأس ماله عبارة عما جمعه من ادخار أجرة الذهاب التى تبلغ "سنين". ولكن ربما فى الواقع لا يستحيل شيء على الإنسان، إذا جمع كل ما يملك من قوة ذهنية وركزها فى تحقيق ما يريد"، ثم نتعرف على الفتاة "أوتاما" بنت بائع الحلوى، يتيمة الأم التى تعيش مع أبيها بمفردهما، وجولة أولى من مقاربة محاولة الخروج من الفقر على يد "رجل الشرطة ذو الوجه المخيف"، ونصائح بأن يدفع بها أبوها إلى إحدى معلمات "الجيشا" تتلمذ وتتعلم فنونهن، وأخيرا تذكرها "سويزو" عندما صار غنيا، فرغم أنه لم يكن يفكر فى أى شيء سوى النقود إلا أنه أراد أن يحظى بتلك الفتاة، وهكذا ضحت "أوتاما" بحياتها بعد أن قررت بيع نفسها لإنقاذ والدها من عناء الفقر، سيكون على طرفى العلاقة بين "سويزو" و"أوتاما": الأب الذى هانت حاله وسقط لدرجة أن يبيع ابنته كمحظية، وهى لن تخبره أن سيدها مرابٍ جشع، وإذا نظل لوقت مع "العذراء البريئة التى تم بيعها فى سوق النخاسة"، فإن "أوتسونه"، زوجة "سويزو" وأم ولديه تقدم لنا ملامح أخرى عن واقع قاس أيضا قد لا يختلف كثيرا عن ما تلاقيه "غريمتها"، فهى إذا تعرف بالبيت والمحظية تحاول أن تبادر بالهجوم لكنها تفكر: "على أى حال الاصطدام بعنف مع الزوج لا فائدة منه، لذا قررت فقط الإقلاع عنه"، وتخاطبه فى نوبة مواجهة: "حتى لو قلت سأترك البيت، لا يوجد بيت آخر أعود إليه، كما أنه يوجد بيننا طفلان. من المؤكد أنك لا تعتبرنى ندا لك"، وهو يفكر بها هكذا: "تعمل وتتحرك مثل بقرة أو حصان.. تحولت إلى بهيمة". وتبدو معادلة شبكة العلاقات كما يعبر عنها "سويزو" بعبارته هذا: "أليست "أوتاما" عبارة عن شوكة فى عين "أوتسونه"؟ أليست النية معدومة لديه فى نزع تلك الشوكة من عينيها وإراحتها؟"، و"أوتاما" من جانبها لها تخيلات: "تنظر إلى الطلاب المارين أمام البيت، وتفكر لو أن بينهم شخصا يعتمد عليه، ينقذها من وضعها الحالى. ثم فجأة تندهش بشدة عندما تنتبه إلى نفسها وقد غرقت فى مثل هذه التخيلات." حين يعود المؤلف ليجمع بين "أوكادا" و"أوتاما" فى مشهد درامى للغاية، حيث يكون الطالب منقذا لعصفورة فتاة النافذة من ثعبان ضخم، ما يجعلها تصمم أن تشكره، وربما تقدم له هدية، وربما، وربما. وحين تصبح "ربما" ممكنة التحقق يمر الراوى و"أوكادا" من أمام نافذتها بينما هى فى انتظار أن تحدثه، ويمر دون أن يلتفت، ويذهب حيث يلتقى هو والراوى بزميل لهما، يقنعهما بمحاولة صيد إوزة من تلك الموجودة فى البركة، ويلقى "أوكادا" بحجر على سبيل إسكات زميله اللحوح دون أن يكون قاصدا أن يصيب هدفه، لكن الحجر يقتل للتو إوزة، وفى ما يشبه الاعتذار الإجمالى يقول للراوى: يوجد بالقطع إوز برى تعيس، لقد رميت الحجر فقط ناحية المكان الذى يوجد به الإوز، ثم يخبره أنه قرر السفر إلى الغرب من دون انتظار تخرجه فى الجامعة، وأنه سيذهب للعمل والدراسة فى ألمانيا. ويختم المؤلف الرواية على لسان الراوى: كيف تعرفت على "أوتاما"؟ وفى أى مناسبة سمعت منها هذه القصة؟ ربما يهم القراء مثل هذه الأسئلة. وإجابتى عن ذلك، وكما ذكرت من قبل، أنه أمر يقع خارج نطاق هذه الرواية. ولكن من الأفضل ألا يتخيل القارئ أمورا لا داعى لها، لأن امتلاكى لمقومات أن أكون حبيبا ل"أوتاما" هو أمر لا يحتمله المنطق". تتبقى تلك المعلومات عن المؤلف أوجاي موري (1862 -1922)، فهو طبيب عسكري ومترجم وروائي وشاعر ياباني، يعتبر أحد الآباء المؤسسين للأدب الياباني الحديث، درس الطب في جامعة طوكيو الإمبراطورية، بعد تخرجه التحق بالجيش الإمبراطوري الياباني كطبيب وأُرسل إلى ألمانيا للتعمق في دراسة الطب أربع سنوات من العام 1884 إلى 1888. بعد عودته كتب أولى روايته، كما ترجم عددا كبيرا من الأعمال الأدبية الغربية إلى اللغة اليابانية. رواية الأوزة البرية المؤلف: أوجاى مورى المترجم: ميسرة عفيفى الناشر: دار الكرمة، 2017