قدم القاص المصري المغترب خالد موافي نمطا إشكاليا مراوغا من السيرة الذاتية, في نصه الجديد: حرب الهوية, بما يستدعي مجددا نقاشا اضافيا ومساجلات متجددة حول فن السيرة العريق في عمق بنيته من صدق الوقائع أو حرفيها إن شئنا الدقة, وعنصر التخييل الذي يتعين بالمثل ان يلازم كل فن ايا ماكان النوع الأدبي الذي نتعامل معه, وما بين قطبي الواقعة الحرفية و التخييل يمضي بنا أدب السيرة الذاتية, أو فن الترجمة الذاتية, مشيرا حزمة ضخمة من الاشكاليات السردية التي تتصل بعملية الكتابة ونمط الاستدعاءات وآلية ارتدادات الذاكرة وهي تشمل جسم الوقائع والأحداث, مراوحة بين درجة من درجات اللزوم ممثلة في سقف صلب من الحقيقة لانستطيع ان نتجاوزه أو نعبث بملامحه بالتخييل ومرونتها ليحوم فيها الخيال برفيف اجنحة بحيث يصنع فنا في ختام اللعبة الابداعية, ولكن بحساب دقيق لايتماشي مع الحرية التخييلية المطلقة الني نانسها أو تجد النص الروائي الخالص. وبعبارة أخري فإن نص خالد موافي يذكرنا مرة أخري بفروق نوعية/ تجنيسية دقيقة بين السيرة و رواية السيرة الذاتية من ناحية, وبين هذين الشكلين في المجمل وكل من المذكرات و اليوميات و السيرة الغيرية من ناحية أخري وهي مساجلات تتحرك نقدا واصطلاحا في الإطار ذاته الذي تحركت فيه نصوص تواترت علي النبع الغامض المثير نفسه, من قبيل الأيام لطه حسين أو زهرة العمر لتوفيق الحكيم أو مذكرات الشباب لمحمد حسين هيكل أو الحي اللاتيني لسهيل إدريس أو ها أنت إيها الوقت لأدونيس أو البئر الأولي لجبرا إبراهيم جبرا أو حتي اصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ, وصاحب هذه النصوص وغيرها سؤال جذري مؤداه: ما الذي يتعين ان ينتسب إلي مربع الوقائع الحرفية في هذا التدفق السخي من الأحداث, وما الذي يجب ان ينتسب إلي رقعة التخييل الحر ضمن هذا النص الذي نسميه السيرة الذاتية؟ وإذا كنا نقر ابتداء بأن هناك مسافة كبيرة تفصلنا في حركة النقد العربي عن طبيعة المساجلات النقدية الدائرة في المغرب الآن حول نصوص السيرة الذاتية الضخمة لبرتداند راسل نقول إذا كنا نقر بهذا الاختلاف الكبير بين نقدهم ونقدنا لا مفر هنا من تخصيص الضمير الاختلاف الكبير بين نقدهم نقدنا ولا مفر هنا من تخصيص الضمير ومغايرته! من حيث المداخل والمناهج ودرجة الاستفادة من الدراسات لانسانية الحديثة, وهو أمر لاينبغي ان نخجل من اقراره فإن الأمانة المتوخاة تقتضي الاعتراف بأنه لم يوجد ناقد عربي معاصر, تخصص في فن السيرة الذاتية, تناولا وتقصيا علي النحو الذي صنعه مثلا فيليب لوجون في النقد الفرنسي! ولم تجد بعد حركة نقدية احترافية لمقاربة السير والتراجم في النقد العربي يمكن ان تفيد من المفترحات التي حققتها الثقافة النقدية المعاصرة في دراسة السرد, في إطار ما عرف ب علم السرديات في هذا الإطار الحضاري والتاريخي قدم خالد موافي سيرته الذاتية الجديدة محوما في المكان بين مصر والسويد ومحوما في الزمان بين كتل زمنية و مراحل متلاحقة مضت بنا وبه من الطفولة إلي الشباب فالكهولة مفرزا مذاقات فريدة لكل مرحلة, وملخصا ما واكبها من اختمارات وصراعات ومعارك جسدت تاريخا مثيرا لفرد طموح مقاتل بقدر ما مثلت ايقونيا تاريخيا لوطن اجتاز مراحل عصفت به بين منحنيات الانتصار والمحن الكبيرة. وقعت السيرة الذاتية فيما يربو علي مائتين وسبعين صفحة, وانتظمت بين دفتيها ثلاثة فصول, حيث تطابق تماما وبمماهاة كاملة كل من ضمير المتكلم الذي يستخدمه الرواي طول الوقت والمؤلف الفعلي الذي يوضع اسمه علي غلاف العمل من الخارج والبطل المركزي الذي ينادي فعليا داخل النص باسم خالد وهي سمة فنية ضمنت انتساب النص وبوضوح شبه كامل بفضل هذا الثالوث إلي مربع السيرة الذاتية الصريحة لا الرواية الخالصة ولا حتي رواية السيرة الذاتية التي تتألق فيها مشاغبات التخييل ومناوراته وأحابيله بدرجة لافتة للمتلقي! دشن الراوي مساحة الاستهلاك المثيرة من داخل الطائرة التي جذبته بعيدا عن مواطئ النشأة محافظة المنوفية إلي قلب الفضاء الأوروبي الرحيب ممثلا في السويد واعتمد الرواية لاحقا في تشكل طبقات السرد علي اجترار الذاكرة لتشكل هذه الحركة الارتدادية المستمرة لحمة السرد في كليته ولم يخف الراوي لعبته المفضلة, حيث يقول قلبت الذاكرة في تؤدة لم أكن من النوع الشاطر في المذاكرة, ولم اسمح لاحد بالسخرية مني والتعالي علي وكما شكل رفاعة الطهطاوي فنيا في تخليص الابريز صدمة الارتطام بحضارة أقوي في بعثة فرنسا وهو يصطدم بالمرايات بصورة تثير الرثاء شكل خالد موافي الصدمة ذاتها من الوجهة النفسية وهو يصافح بانقباض وتهيب صورة السويد علي الخارطة وهي تشبه التنين فاغرا ضبه! وتقافزت في شاشة الخطاب السردي بوضوح تام صورة الوالد الذي اتسم في تربيته لأولاده بقدر من الصرامة إجمالا فلم تفرق شكيمته بين الأبناء والبنات فيما يقول الراوي ولكن هذه الشكيمة فقدت كل حضور بإزاء الراوي نفسه أو) خالد ( الذي عامله الأب بقدر استثنائي من الحنو والترفق)! ولم يجبنا الراوي لماذا تشكل في ميراث العائلة هذا الاستثناء؟ وبأية دوافع؟. عاد بنا الراوي بهزاته الارتدادية إلي عام1967 وهي نقطة البدء الزمني في جسم الوقائع والأحداث, حيث تألقت صورة الراوي طفلا في السادسة من عمره, يحدق في الوجود وطنا وكونا بطزاجة الأسئلة الكبيرة. وقادته مغامرات الاكتشاف الطفولي المبكر, وهو يحدق في الزهرة, إلي أن الدلالة الجمالية للأشياء خصوصا الزهور لايمكن أن تستقل بذاتها بمنأي عن رؤيتنا ووعينا وانفتاحاتنا علي الحياة, يقول..( نعم الزهور جميلة ولها بريق ولكنها بلا هؤاء لاشئ)!.. وتنتقل بنا المشاهد بوثبات حرة لاتلتزم رابطا بنيويا ولاحتي بمنطق تداعي المعاني كما يقول علماء النفس فتحط بنا الرحال تارة عند الجرس المدرسي العتيق وتارة عند صورة الأخ الأكبر الذي يكبره بعامين, ثم تثب بنا فجأة بحرق المراحل زمنيا إلي عام1973 بعبوره الباعث علي الفخر ثم بفورة فترة السادات عام1977 وخصوصا المبادرة الشهيرة. ربما كان هذا التقافز المشتت مقصودا لتصدير رسالة الإرباك الذي صاحب الراوي في مستهل رحلة النزوح إجمالا. وخلافا لما توقعنا, لم تستغرق صدمة الارتطام بالآخر وقتا طويلا فقد بوغتنا بمقدرة الراوي السريعة المذهلة علي طي صفحة الصدمة الأولي والتأقلم سريعا مع مدينة لينشوبينج السويدية المثيرة.. وحين وصلت كان كل شيء يسير وفق تصوري, فلم أشعر أنني غريب عنها بل جزء من المكان.. ص42 وهنا ألفينا شكلا من أشكال الألفة المتولدة سريعا, نجحت من خلالها الذات الساردة في تأكيد قدرتها الاستقلالية ذات الطابع النضالي, فلم ترتطم في المهجر بتجربة الاغتراب علي النحو الصاعق الممتد الذي توقعناه, بل امتزجت سريعا بالحاضنة البيئية المحيطة, لغة وبشرا ومدنا. ومنذ لحظة العمل في مجال توزيع الصحف وارتياد المدارس الليلية لتعلم السويدية بطلاقة, ستتشكل موجة الحركة في قلب الخطية الزمنية الطبيعية, التي تمضي بنا طورا طورا بما يشبه الترتيب الطبيعي, دون أن يفقدنا الراوي الإحساس بغرابة الانتقال مزاجا وطبعا وثقافة من المنوفية إلي هذه البقعة الغامضة التي تطل علي بحر البلطيق بميراثها الغامض دون أن يتخلي الراوي قديد شعرة عن أبراز مقدرته الكبيرة علي تجاوز الفجوة الحضارية بمصالحات داخلية جادة. وبدءا من عام1985 المرحلة الزمنية اللاحقة في مسيرة الراوي ستتحرك كتل السرد بما يشبه التوازن بين الوحدات, حتي في درجة الإضاءة, فليس ثمة كتلة سردية بعينها, تحظي بدرجة كثيفة من الإضاءة دون غيرها. ولاينسي الراوي في محطات الرصد المتلاحقة محطة خاصة من المباهاة الوطنية بالعطاء الأدبي العربي, ممثلا في حصول( نجيب محفوظ) علي جائزة( نوبل) عام1988, حيث ينقل الحدث الكبير من قلب الحاضرة التي تحتضن الجائزة العالمية الكبري, ونكاد نحس سعادة الراوي وقفزته الجذلانة بالانتشاء, وهو يقر بأن الجائزة تم الحصول عليها..) بلا ضغوط سياسية, ولا ألا عيب شيطانية بتعبير الراوي ولم يمنع هذا الانتشاء من أن يطرح الراوي نفسه, سؤالا كبيرا, يدور بقوة في وجدانه..( لماذا لم يقرأ) نجيب محفوظ في الغرب كما قرأ ماركيز( ؟)(..! ص92) وسحب الراوي بمهارة سردية ملحوظة موجات السرد إلي نوافذ قضايا متجددة, متنوعة, فقضية كارين واعتناق الاسلام قادته إلي شذرات وصفية دالة من المقارنات الحضارية والفكرية الشاملة, مدارها الإسلام والآخر وأوروبا والآخر, ومع هذا الخيط المهم, جدل الراوي خيطا آخر ممثلا في صورة الشرقي القح الذي يتعامل بثقافته الخاصة مع عالم البورصة الضخم الغامض, ويتابع أسهمها الملتاثة, صعودا وهبوطا! اعتمد الراوي, فيما يجاوز الثلث الأول من العمل تقريبا علي عنصري: السرد والوصف وبدءا من الثلث الثاني من التجربة النصية سيتم إنعاش تقنية( الحوار الموسع), علي أن مابدا بوضوح في الحوار الدائر بين هادي ولينا. ولاننكر هنا أن بعض المشاهد قد شابها شيء غير قليل من الجفاف والصرامة والافتقار إلي الأجواء الإنسانية الدمثة الحميمة, التي لمسناها في مناطق أخري من التجربة, حيث زحفت هذه الصرامة المعيبة فيما أري إلي حديث الراوي الجاف عن حاجة الدولة السويدية إلي خدمات المترجمين, أو إلي حديثه عن الهجرات الواسعة من العراق وسوريا وفلسطين وإيران بما سحب المشاهد إلي رقعة التحليل الجاف علي نحو ربما أعطب آلة السرد نفسها عن العمل في بعض اللقطات والمشاهد بدت مقدرة المؤلف الناصعة بوضوح في تمكنه الظاهر من الانتقال من( الوقائعي) المعتمد علي الحدث وحده إلي( الفكري) القائم علي الرؤي والتأملات. وبدءا من عام2007 في المسار الزمني المتسلسل سينتقل الراوي إلي تجربة شديدة الخصوصية في الميدان التربوي/ التعليمي. بإدارة مدرسة والقيام علي طلبها متنوعي المشارب والثقافات في لقطة كبيرة راوحت بين هوية) الجالية العربية/ الإسلامية وفكرة التغريب بوجه عام. وفي المشاهد الختامية تلامس تجربة السيرة الذاتية أحداث25 يناير2011 بزخم موجاتها المتلاحقة, حيث يبدي الراوي سروره بحيوية القوي الشبابية الناهضة التي تعيد رسم صورة الوطن بضربات فرشاتها المبدعة, إنهم لايختلفون كثيرا في منطقهم ووجهتهم عن طلابه المتوثبين في المدرسة دار العلوم بالسويد فقد: ضخوا الدماء الجديدة.. في العروق القديمة. ولم يذيل الراوي تجربته السيرية( الكبيرة بنبرة وثوقية) دوجماطيقية,( بل طرح سؤالا كبيرا مؤداه): هل ربح وحده أم كان فحسب واحدا من جملة الرابحين؟! وهو سؤال يتغلغل, بخيوطه, في السياقين: العام والخاص. ويطرح ظلا دالا علي قرائه الذين يتلقون بمزيج من المتعة والفائدة هذه السيرة الذاتية المثيرة التي تجدد, بقوة, اسئلة هذا الفن العريق الذي يجمع, كما يقول الناقد الأمريكي بول موري كيندل( بين) السراب( و) الحجر الصلد!