لا تخطو المؤسسة الثقافية الرسمية فى مصر خطوة إلا وهى تقدم دليلا إضافيا على أن أجهزة الدولة جميعا تتعامل مع الثقافة باعتبارها "شر لا بد منه"، مظهرا احتفاليا، تُسدد فيه الخانات الفارغة بأنشطة غير جدية، وتطلق فيه كلمات بلا معنى؛ فحين أعلنت اللجنة العليا للدورة ال(49) لمعرض القاهرة الدولى للكتاب عن اختيار عبد الرحمن الشرقاوي شخصية المعرض، كانت فى الواقع تقوم بهذه الخطوة، وتقدم ذلك الدليل الإضافى. لم يكن اختيار الشرقاوى يحتاج إلى البحث طويلا عن السبب؛ فقد كتب فى أنواع أدبية وفكرية متنوعة، ونتاجه يؤهله لشغل موقع متقدم فى ذاكرتنا الثقافية، وهو بلا شك يستحق التكريم، قد يكون مرور ثلاثة عقود على رحيله مناسبة لائقة، وقد يكون باعتباره كاتب مسرحية "مأساة جميلة" التى تتناول سيرة المناضلة الجزائرية الأشهر: جميلة بوحيرد، متناغما مع اختيار الجزائر كضيف شرف هذه الدورة من المعرض، لكن كل هذه مسائل إجرائية- مناسباتية، مظهرية- ما دامت المؤسسة الثقافية الرسمية لم تفكر فى كيفية استعادة الشرقاوى بحق، استعادته فى نشاط ثقافى شامل يعيد تعريف الجمهور به وبعطائه الأدبى والفكرى، بل ببحث نقدى يكشف عن أخطائه وعثراته، بهذا فقط تكون الاستعادة الواجبة. فلننظر أولا إلى ميراثه المسرحى ونفكر: كيف نكّرم الشرقاوى ونستعيده، ونعيد تعريف المصريين والعرب به؟ كتب الشرقاوى سبع مسرحيات، هى: مأساة الجميلة (1962)، الفتی مهران (1966)، تمثال الحرية (1967)، وطني عكا (1969)، ثأر الله: الحسين ثائرًا- الحسين شهيدًا (1969)، النّسر الأحمر (1976) ، أحمد عرابي زعيم الفلاحين (1985). فهل فكرت، مثلا، مؤسسة الثقافة الرسمية فى أن تعيد تقديم أي من هذه المسرحيات السبع؟ كل واحدة منها يمكن أن تتماس بصورة مباشرة مع وقائع تدور الآن وربما تشغل أذهان كثيرين، المسرحيتان الأخيرتان بالأخص دار جدل كبير متعلق بهما فى الأشهر الأخيرة، ف"النسر الأحمر" تتناول شخصية صلاح الدين الأيوبى، والأخرى واضح من عنوانها عما تدور، الجدل كان مفجعا فى بعض أوجهه ف"الأيوبى" و"عرابى" كانا موضع اتهامات مشينة بحق، لسنا هنا بصدد مناقشة الموضوعين والادعاءات التى طالت الشخصيتين، السؤال: ألم يكن تقديم مسرحية منهما استدراكا متعقلا فى جدل وصل الحضيض لفظا ومعنى؟ لو عدنا خطوة واحدة للخلف وتوقفنا عند "ثأر الله" لتكشفت لنا حقيقة تفكير المؤسسة الثقافية الرسمية، فلو كانت تملك أدنى إحساس بدلالة ومعنى "التكريم" لكانت عملت على تصحيح "خطيئة" عمرها يربو على نصف قرن؛ خطيئة ستظل عالقة فى الذاكرة كدليل إدانة دامغ على عداء الدولة لحرية الفكر والتعبير والإبداع، لكنها لا تملك مقومات أن تقترب من مجرد التفكير فى ذلك، ستضع صورة الشرقاوى على ملصق دعائى، وفى زاوية من المعرض، ستعقد ندوة أو اثنتين، وستكون قد سددت الخانات الفارغة، سيقول أحدهم: العروبة، النضال، دور مصر، القوة الناعمة، التحرر، الحرية... كلمات، كلمات، بينما تظل "ثأر الله" ممنوعة من العرض. ملف المسرحية متخم بصورة فاجعة، فقد تقاطع مسارها طوال نصف قرن مع السياسى ومع الدينى ومع الشخصى ومع التدخلات الخارجية، مسار المسرحية فى دروب وأزقة الدولة المصرية وأجهزتها يستحق أن تكتب فيه كتب ومسرحيات وأفلام وقصص وأغانٍ، وكل أشكال الفنون. هنا قائمة متعجلة للمحطات الأبرز، مستلة من حكايات وحوارات ووثائق ومراجع: مرت المسرحية خمس مرات على الرقابة على المصنفات الفنية وعلى لجان تابعة للأزهر، وتقدم بالنص ثلاثة مخرجون: كرم مطاوع (مرتين)، جلال الشرقاوى، عصام السيد، ما بين محاولة مطاوع ومحاولة السيد أربعة عقود كاملة، كان مطاوع "مسحورا" بالمسرحية، وعبد الرحمن الشرقاوى متماهيا معها، ورغم ذلك -وربما لذلك- استجابا لكل شروط الأزهر: غيرا الاسم من "ثأر الله" إلى "الحسين ثائرا والحسين شهيدا"، تعهد مطاوع أن لا ينطق الممثلون الذين يقومون بأداء شخصيتى الحسين وزينب بالحوار إلا بعد أن يقولا: قال الحسين، وقالت زينب، كما يحدث مع كل من ينقل كلام الله -القرآن- أو كلام النبى -الحديث- وتحايل مطاوع على الرقابة لشهر كامل، وظل الجمهور يدخل لمشاهدة العرض المسرحى على أنه مجرد تمارين مسرحية وليست عرضا؛ لكنه لم ينل الموافقة أبدا. قيل إن السبب سياسى مرة -تحدثوا عن السادات وعام الضباب- وشخصى مرة -تحدثوا عن رفض الوزير فاروق حسنى فى بداية ولايته (أكتوبر 1987) لأن الشرقاوى كتب فى الصحف معتبرا أن حسنى غير لائق ليكون وزيرا لثقافة مصر-؛ ورحل الشرقاوى عن دنيانا بعد أقل من شهر وبقى حسنى وزيرا لما يقرب من ربع قرن. فى كتاب "عبد الرحمن الشرقاوي: الدلالة والشهادة" يخصص المؤلف، الدكتور مصطفى عبد الغني، فصلا تحت عنوان "الحسين وقضيته"، كشف فيه أن الشرقاوى أخبره أنه: "قبل عرض مسرحية الحسين بيومين جاء من السعودية الشيخ محمد حسنين مخلوف مندوبا من رابطة العالم الإسلامي مطالبا بمنع عرض هذه المسرحية". طوال نصف قرن قرأ كثيرون أخبارا عن المسرحية والموافقة والمنع، وحلم ممثلون كثر بتمثيل شخصية الحسين وزينب، فى السنوات الست الماضية أضحى ظهور الصحابة وكبارهم: أبو بكر، عمر، عثمان، علىّ، متواترا على الشاشة، وباتت تلك الفتاوى القديمة تراثا مهجورا، إلا مع "ثأر الله". فهل يفرج الأزهر عنها مساهمة فى استعادة الشرقاوي؟ هنا نقدم أصداء تلك المعركة الخاسرة على لسان المهزومين: أبيات من "الحسين ثائرا وشهيدا" بصوت كرم مطاوع نور الشريف يقرأ أبياتا من نص المسرحية جلال الشرقاوى يروى حكايته مع الحسين ثائرا والحسين شهيدا