شئنا أو أبينا، الإسلام على شفا ثورة جديدة، ثورة تبعث في داخله رياح التجديد وتجعله أكثر عصرية وتفتحا. ليس هذا مقالا في الكفر أو التجديف، ولكنه محاولة لتلمس الظواهر الجديدة لهذا الدين العتيق الذي ورثناه عن آبائنا وأجدادنا وما زلنا متمسكين به، لا نفكر في تغيره أو التخلي عنه، أقول هذا على سبيل التذكير، تذكير النفس وتذكير من يقرأ هذه الكلمات. فالإسلام مثل كل شيء في عالمنا المعاصر يتعرض لتحديات كثيرة وتغيرات أعمق، وخاصة بعد أن تشوهت صورته بفعل أتباعه، البعض منهم على الأقل، وعبثًا نحاول الفصل بين الإسلام والمسلمين، والزعم بأن الدين جيد ولكن بعض المسلمين غير جيدين، العالم المعاصر لا يعترف بهذا الفصل، ويرى أن كل الإرهابيين الذين يهددونه مسلمين، لذا يجب أن يتغير الإسلام حتى يخرج من دائرة الشبهات، نحن في حاجة لتغيرات لا تمس جوهره، ولكن تفتح الباب لتغيرات أكبر حتى تؤكد مرونة الإسلام وقدرته على مواكبة العصر. ولكن الغريب أن هذه التغيرات تأتي من خارج مصر، رغم أنه لا يوجد شعب لعب دورا مهما في نهضة الإسلام كما فعل شعبها، فقد كان دائما هو الدرع الأول الذي تصدى لكل محاولات استئصال هذا الدين، فبعد أن أحرق المغول عاصمة الإسلام في بغداد تولت مصر مهمة حمايته، تصدت لجيوش الفرنجة الذين جاؤوا ليقيموا مملكة الصليب في القدس والتهموا فلسطين وبعضا من بلاد الشام، ولكن مصر ظلت تحاربهم على مدى عقود من الزمن حتى تخلصت من آخر بقاياهم، وهزمت المغول أيضا وانتقمت لما حدث في بغداد، وظلت مصر تتلقى الغزوات الأوروبية المتتالية وهي تحافظ على إسلامها، ولكن بقدر جهدها في حمايته ظلت غير قادرة على تجديده. دائما ما تولد الأصوات المحافظة في مصر، وعادة ما تأتي أصوات المجددين من خارجها، ومصدر الغرابة هنا أنه لا يوجد بلد في العالم أنجب علماء في الإسلام مثلما أنجبت مصر، ولم يتعمق أحد في جذور الشريعة ومقاصدها مثل أبنائها، ومع ذلك ظل هذا الجهد في إطاره المحافظ، فقد كانت قبضة الأزهر حازمة على دارسيها، وكانت السجون أيضا مفتوحة لكل من تسول له نفسه الخروج عن الخط المرسوم، وقد تحول قانون ازدراء الأديان الذي تم وضعه في السبعينيات إلى سيف مسلط فوق رقبة كل من يحاول الاجتهاد، وقد دفع المفكر إسلام البحيري ثمنا لذلك من سنوات حريته داخل السجن لمجرد أنه قد جرؤ على إعمال عقله في قراءة الكتب الصفراء، وهي لم تكن أكثر من كتب غير مقدسة مر عليها قرون دون أن يتصفحها أحد أو يفكر في حل طلاسمها، ومع ذلك ذاق البحيري مرارة السجن لأنه فقط حاول ذلك. الأفكار المختلفة حملها جمال الدين الأفغاني من أفغانستان، وكان كما يقال عنه يحمل علبة السطوع في يد والثورة في اليد الأخرى، كانت روحه متقدة ترفض الخضوع لاستبداد الحكام، وكان يستمد من الدين روحه الإيجابية ورفضه للحكم المطلق ويؤمن بالشورى كوسيلة للحكم، لذلك كان خلافه أساسيا مع كل حكام العالم الإسلامي الذين لم يكونوا سوى حفنة من الطغاة، وربما ما زالوا كذلك، وقد أثرت تعليماته على جموع من المفكرين المصريين، وسرى جزء من روحه إلى الجيش المصري وجعل رفاق عرابي يثورون ضد الخديو. والأفكار المختلفة جاءت أيضا من حلب مع المفكر عبد الرحمن الكواكبي وهو يحمل كتابه "طبائع الاستبداد" ليكشف عن الطابع الاستبدادي للحكم العثماني، وكيف أن سلاطين بني عثمان يتخفون تحت عباءة الإسلام ويمارسون في الوقت ذاته أقصى درجات القمع ضد الشعوب الإسلامية الواقعة تحت إمرتهم، وكان هذه أول درجة من الوعي للفصل بين ما هو ديني وما هو سياسي، فالدين هنا لم يكن إلا قناعا للخداع يكسب هؤلاء الحكام شرعية زائفة. على العكس من هذه اليقظة من الوعي فقد صعدت حركة الإخوان المسلمين لترتد عن كل هذه الأفكار وتعيد للدين نظرته الكهنوتية المغلقة، دون اجتهاد، ودون مجاراة لروح العصر، بل إنهم خلصوا إلى تكفير المجتمع الذي يعيشون فيه ووصفوه بالجاهلية الثانية، وكان انتشارهم في بعض جوانب المجتمع المصري هو سببا آخر لقتل روح التجديد في داخله. ولكن الأفكار المختلفة تأتي هذه المرة من تونس، تلك الدولة الصغيرة العدد المحدودة المساحة، الرائدة في تطلعها للمستقبل وسعيها الدؤوب للتحرر من أغلال الماضي، لقد كانت أول من أعطانا الدرس الأول في الثورة، وأول من اكتشف أن الطغاة العرب الذين لبثوا سنوات طويلة في الحكم ما هم إلا تماثيل من شمع، يذوبون وينتهون عندما ترتفع حرارة الغضب الشعبي، وهم يواصلون الآن ثورتهم الخاصة من أجل إنصاف المرأة وإعطائها حقها الطبيعي في الحياة، وأهمية هذا الأمر أن المرأة العربية تعاني من وضع اجتماعي يهدر كل حقوقها، ومصر واحدة من أسوأ الدول في معاملة المرأة، ولا يتوانى رجال الدين عن إذلالها في كل مناسبة، لأنها خلقت من ضلع أعوج لذا فهي دائما إنسان ناقص، شهادتها نصف شهادة أمام المحاكم، وميراثها نصف ميراث، ولا تستطيع أن تحجب ثروة أهلها إذا لم يكن لها أخ ذكر، كل هذا توقف عند حدود تونس التي طالما تعاملت مع المرأة كإنسان كامل وليس نصف إنسان، فمنذ سنوات استقلالها المبكرة وهي تهتم بتعليم المرأة وتتيح لها الفرصة لتدعم شخصيتها، ثم أصدرت قانونا مهما يمنع تعدد الزوجات، لحظة مهمة في تاريخ المرأة العربية تعلن انتهاء عصر الحريم، وأضافت تونس إليها منعها للطلاق الشفوي الذي كان يضع مصير الأسرة في يد رجل غاضب، وأحالت أمر الزواج والطلاق إلى المحكمة ليبني القاضي حكمه على أسباب موضوعية، وها هي تكمل رسالتها من أجل إنصاف المرأة وتصدر قانونا يساوي في الميراث بينها وبين الرجل، بل ويعطيها الحق في الزواج بمن تحب وتريده حتى ولو كان يخالف دينها، وقد تبعتها الجزائر وأصدرت قرارا باختصار أذان الصلاة ليكون أقل كلاما وأكثر سموًّا، وسبقتهما إيران عندما جعلت الأنثى تحجب الميراث مثلها كالذكر. قرار جريء، وبداية حقيقية لمواكبة روح العصر، أعرف أن هناك نصا قرآنيا يحدد ميراث المرأة وكيفية زواجها، ولكنه نزل حين كانت المرأة جارية تباع وتشترى، ويئدها أهلها أحيانا في الرمال، ولكن وضعها قد تغير الآن وأصبحت إنسانا حرا، كما أن هذه التعديلات لا تمس الأسس الخمسة التي بني عليها الإسلام، لم يمس القرار الجديد أيا من هذه الأسس، وأزعم أنه يرسخها لأنه يضيف إليها عنصر المساواة، الطريق الأمثل لتحقيق العدالة وإعطاء المرأة حقوقها التي حرمت منها طويلا.