من قواعد الفقه الراسخة التي لم تتغير أو تتبدل مع تغير الزمان والمكان أنه لا اجتهاد مع النصّ. وشيخ الأزهر يقول : "النصوص إذا كانت قطعية الثبوت والدلالة معاً فإنها لا تحتمل الاجتهاد، مثل آيات المواريث الواردة في القرآن الكريم، والنصوص الصريحة المنظمة لبعض أحكام الأسرة؛ فإنها أحكام ثابتة بنصوص قطعية الثبوت قطعية الدلالة بلا ريب، فلا مجال فيها لإعمال الاجتهاد، وإدراك القطعي والظني يعرفه العلماء، ولا يقبل من العامة أو غير المتخصصين مهما كانت ثقافتهم". وبالتالي يكون الجدل المثار في تونس حالياً بشأن المواريث، وحرية الزواج للمسلمة من غير المسلم، لا معنى له، فهي ليست قضية تحمل وجهتي نظر، هذا معها، وذاك ضدها، إنما هناك طرف يريد التدخل في تشريع إلهي واضح ومفصل ومحدد. طوال أكثر من 1400 سنة من الهجرة النبوية الشريفة، ومن تمام الإسلام والقرآن والشريعة، فإن دعوات مثل التي أطلقها الرئيس التونسي قد تكون حدثت أيضاً على مرّ العصور، لكن لم يصدر فتوى أو تشريع يغير في قانون المواريث الإلهي لمساواة الرجل والمرأة في الأنصبة، أو إجازة زواج المسلمة من غير المسلم. ألا يلفت انتباه من يتاجرون بالمساواة، ويريدون التدخل في قانون سماوي، أن التمييز جاء في أربع حالات فقط لصالح الرجل، وهو تمييز مقدر من القدير، وله مبرراته العقلية والواقعية، بينما عشرات الحالات الأخرى تحصل فيها المرأة أكثر مما يحصل عليه الرجل، فلماذا لا يرون هذا الجانب من تمايز المرأة المقدر من الله أيضاً. الاجتهاد ضروري فيما لم يرد فيه نصّ صريح، والعلماء لا يتوقّفون عن الاجتهاد والنظر الدائم في الفقه بما يناسب الأوضاع والظروف الجديدة على المسلمين، نعم الحياة اليوم تختلف في تفاصيل كثيرة مستحدثة عما كانت عليه أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن الكريم، وما بعده بقرون، لكننا نعيش حياتنا بكل ما يطرأ عليها من مستجدات بفضل التجديد في الفقه والفتاوى العصرية دون أن يحل ذلك حراماً، أو يحرم حلالاً. من يقرأ آيات المواريث لن يحتاج إلى أن يتعب نفسه ويجتهد فيها تحت مزاعم المساواة ليستميل عطف الغرب حيث سيجد إلهاً حكيماً عليماً بمن خلقهم يحدد بشكل دقيق الميراث على المستحقين الشرعيين له بعد وفاة صاحبه، ولم يترك سبحانه مجالاً لمجتهد أو فقيه أو مدعي استنارة. ما يريد النظام التونسي فعله سيكون سابقة لو تحقق، ولا أظن أن الشعب التونسي المسلم، أو البرلمان المنتخب يريدان قانوناً يغير في المواريث، أو يجيز زواج مسلمة من غير مسلم، وتلك ليست عنصرية ولا استعلاء، والآيات واضحة أيضاً في موضوع الزواج، وقد سبق أن أطلق البعض دعوات مماثلة، لكن كان مصيرها التجاهل والسقوط. لا يجوز ضرب ثوابت العقيدة، ولا خلخلتها، بحجة التحديث والتجديد في الخطاب الديني، والفقه الإسلامي، مجالات الاجتهاد مفتوحة فيما لم ترد فيه نصوص صريحة، والعلماء يقومون بهذا الدور، وإلا ما كنا تعايشنا مع واقع مختلف عن ظروف الواقع والناس عند نزول القرآن الكريم. ما يُقال عما يجري في تونس ليس تدخلاً في شأنها الداخلي، لأن ما يحدث عبث بقواعد دينية وتشريعية ثابتة ومستقرة ومرت على عقول أساطين الفقهاء والمجتهدين والمجددين والمفسرين والمفكرين طوال تاريخ الإسلام والمسلمين، ولم يقترب أحدهم من قضيتي المواريث وزواج المسلمة بغير المسلم، وإلا لكنا وجدنا في فقه الأئمة الأربعة، ومن جاء بعدهم من أئمة وعلماء ثقات، فتوى لما يبحث فيه اليوم النظام ويريد تغييره، وبالتالي لا يكون في حاجة للدراسة واللجان ومناقشات البرلمان. مغازلة الغرب لا تكون على حساب الدين، وعقيدة المسلمين، لدينا قرآن محفوظ لم يتغير أو يتبدل حرف فيه منذ نزلت أولى آياته، وسيظل محفوظاً كما أنزله الله على قلب نبيه إلى قيام الساعة، وهو يتضمن العبادات والمعاملات والشرائع والأحكام والأخلاق، وأخبار الأمم السابقة، وهو مرجعية المسلمين الأساسية في كل دولة إسلامية، ولدى كل جالية مسلمة، ومن الشريعة ومبادئها يتمّ سنّ قوانين محلية لا تخرج عنها مع النظر في كل ما هو مستجد في الحياة أيضاً، وفي المواريث والزواج لا شيء إطلاقاً يبرّر التعدّي على حدود الله فيهما. إذا كانت أحكام المحاكم العليا في مختلف البلدان، ومنها الإسلامية، تصير نهائية وواجبة التنفيذ في كل القضايا، ومنها القصاص، فالأولى أن يكون مجال أحكام الله السمع والطاعة والتنفيذ دون الجدال بشأنها أو العبث فيها لتوجيه رسائل تزلف للأجنبي الذي يشرع لنفسه كما يشاء في سياق علمانيته التي تفصل بين الدين والدولة، لكننا غير ملزمين برؤاه ونهجه وفلسفته في قوانينه ونمط حياته، نحن ملزمون بمبادئ الشريعة الإسلامية. في تونس توجد قضايا كثيرة أهم للناس من شغلهم بأحكام حسمتها السماء، دنيا الناس ومعايشهم وخدماتهم واقتصادهم وأوضاعهم الاجتماعية وتوفير سبل العيش الكريم لهم وتوسيع منافذ الحريات وصيانة حقوق الإنسان والتنمية وبناء دولة قوية متطورة هو ما يجب أن يأخذ جُل تفكير الرئيس والحكومة والبرلمان وكل مؤسسات الدولة وأحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني والقوى الناعمة من إعلام وثقافة وفكر وأدب وفنّ وغيرها. وعلى النظام الحاكم ونخب المجتمع أن ينشغلوا بقضية أخرى أهم وأخطر وهي أن العدد الأكبر من عناصر تنظيم "داعش" يحملون الجنسية التونسية، وما يسعى النظام إليه اليوم من افتئات على النصوص القرآنية يمنح المتطرفين فرصة ذهبية لنعته بمعاداة الشرع، وجذب المزيد من الأنصار إليهم. نختم بفقرة أخرى مهمة من بيان شيخ الأزهر يقول فيها إن "مثل هذه الأحكام لا تقبل الخوض فيها بفكرة جامحة، أو أطروحة لا تستند إلى قواعد علم صحيح وتصادم القطعي من القواعد والنصوص، وتستفزّ الجماهير المسلمة المتمسّكة بدينها، وتفتح الباب لضرب استقرار المجتمعات المسلمة". [email protected]