أنت شايف إيه؟ لما الموقف مايكونش واضح وفيه كلام، بنستخدم السؤال ده عشان نعرف إحنا والناس اللي قدامنا بيفكروا في إيه، وبنقول "شايف إيه" لأن الرؤية والنظرة مرتبطين مجازًا بالمستقبل، مش عشان إحنا متوقعين إنه اللي هنشوفه بعينينا هيأثّر في الموقف المتشاف. قدرة إن البني آدم يشوف قدامه، بالمعنى الحرفي وبالمعنى المجازي، قدرة اتكتب عنها كثير في تاريخ الفلسفة الغربية، ودايمًا بتتوصف كأن الرؤية بتبيّن الأشياء الظاهرة، سواء كان الظاهر أشكال بصرية بنشوفها بعينينا أو مستقبل بنتصوره في خيالنا. في التراث الفلسفي الصوفي، سؤال "أنت شايف إيه" مرتبط بالباطن أكثر من الظاهر، وده الفرق بين البصر والبصيرة. في التصور الشائع، الناس مالهاش إلا العيون عشان تشوف بها، إنما العيون بتشوف ظاهر الأشياء وبس. في التراث الصوفي، العين اللي بتشوف فعلاً هي عين القلب، اللي عندها قدرة لأنها تدرك العالم الباطن اللي وراء "عالم الشهادة" في تعبير الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. العالم ده نقدر نشهد عليه بالنظر، بس ده الجزء الباين منه بس: فيه جزء ثاني مش باين ومانقدرش ندركه إلا عبر البصيرة، والبصيرة في القلب مش في العين. عين النظر وعين العقل مايقدروش يشوفوا عالم الغيب، ومفيش إلا القلب المكشوف اللي يقدر يشوف الباطن. الباطن مش بس حاجة مابنشوفهاش بعينينا، إنما حاجة مانقدرش نشوفها أصلاً، إلا إذا كان عندنا شوية بصيرة. لذلك الواحد اللي بيتفرج على لوحة فنية لمريم العذراء مثلاً وقادر يأول معانيها حسب معرفته لتراث الفن وتاريخ الأديان مش هيكون شايف باطن اللوحة، لأن التأويل والتاريخ برضه جزء من عالم الشهادة في التصور الصوفي. بس إذا العذراء حضرت للواحد وهو بيتفرج على اللوحة، يبقى المتفرج شافها بقلبه مش بعينه، وكشف جزء من الحجاب اللي بيفصل بينه وبين عالم الغيب ببصيرته. حضور العذراء مش هيبان لأي حد، لأن زي ما العين بتبقى عامية، القلب بيبقى محجوب، والبشر أساساً محجوبين بشكل أو بآخر في الفطرة. الحجاب له مستويات، والشخص اللي يقدر يكشف مستوى ممكن مايكونش كاشف مستوى ثاني، فدور الطريقة الصوفية إنها تدرّب البني آدم على إنه يعرف يشيل الحجب اللي بتغيّم قلبه بأساليب وتقنيات متعددة. يعني كل طريقة لها طريقتها في الكشف عن المحجوب، والهدف الأعلى هو دايماً كشف جميع الحجب عشان الإنسان يوصل لمعرفة ربنا سبحانه وتعالى. طبعاً ماحدش عنده معرفة مباشرة بربنا إلا ربنا نفسه، بس اللي يقدر يكشف عن جميع الحجب بزهده ومجهوده يقدر يعرف ربنا بالبصيرة ويتوحّد مع صفات الله في أقسى مستوى من الكمال الإنساني. يعني البصيرة بتعتمد أساساً على الإيمان، والإنسان لا يمكن يكون بيشوف بالقلب إلا إذا كان عنده إيمان عميق وصادق بربه. بدون إيمان، صور مريم العذراء مالهاش أي باطن ولا أي غيبيات، والعالم اللي حوليها بيبقى مجرد أشكال حسية وهندسية وعقلية، والخيال بيبقى محبوس جوة الإطار الظاهر ده. إنما الإنسان المؤمن بيفتح خط معرفي ثاني للتفكير في العالم، خط موازي بيخللي الغايب حاضر، وبيكشف الحجب اللي بتغطي قلوب الناس حسب طاقته ومعرفته. إذن البصيرة مش مجرد العين اللي بتخللينا نشوف اللي إحنا مش قادرين نشوفه، دي العين اللي بتكشف إن اللي إحنا شايفينه محدود، ووراء كل شيء ظاهر في عالم الشهادة، فيه أشياء باطنة لا يعلمها إلا الله.