إن نظرة على تاريخ تطور نظم الأفكار المستعارة وتهجيناتها، وبعض من ابتساراتها، وتجزيئاتها، واختلاطاتها، وتشوشاتها، تشير إلى أنها اكتسبت بعضا من الحيوية والدينامية فى ظل مجتمع شبه ليبرالى، وشبه مفتوح، وفى ظل بروز ملامح تكوينية لثقافة المدينة -حول القاهرةالإسكندرية وبعض المدن الأخرى- من حيث التعدد الدينى والثقافى، ونمط من التعايش والتفاعل بين مكوناتها فى ظل وجود بعض الجاليات الأجنبية، وبعض المتمصرين، على نحو كوزموبوليتى كما فى الإسكندرية وفى بعض أحياء القاهرة- هذا التفاعل بين نمط الحياة المدينى الكوزموبوليتى، وبعض من الانفتاح على ثقافات العالم الأوروبى، أضفى دينامية على مدارس الفكر والعمل السياسى. من ناحية أخرى أدت هذه البيئة المضطربة بالأفكار إلى إعادة النظر فى عديد من الأفكار النقلية، على نحو ما فعل طه حسين "فى الشعر الجاهلى"، وعلى عبد الرازق فى "الإسلام وأصول الحكم"، وخالد محمد خالد فى "من هنا نبدأ" ومقالات الشيخ محمود بخيت حول فريضة الصيام فى شهر رمضان، بعد ثورة يوليو 1952 بسنوات. بعض هذه المقاربات الحداثية للموروثات الدينية الوضعية شكلت صدمة في دوائر العقل النقلي والمؤسسة الدينية، وأثارت جدالا وسجالات حادة، وبعضهم تم التحقيق الإداري والجنائي معه، وتم فصله أو نقله من عمله، ولكنه عاد بأحكام قضائية رفيعة دعمت حرية الفكر والرأي والتعبير، وتحقيق النيابة مع الأستاذ العميد طه حسين، ثم حفظه حول اجتهاده البحثي فى كتاب الشعر الجاهلي. استمرت فوائض الحيوية الفكرية للمرحلة شبه الليبرالية مع ثورة يوليو 1952، وتطور نظامها التسلطي والكوربوراتي، وأدى صراعها الضاري مع جماعة الإخوان المسلمين والماركسيين، إلى فرض قيود على حريات الرأي والتعبير، ومن ثم إلى تأثيرات سلبية على الفكر الليبرالي وبعض الفكر اليساري لا سيما الماركسي، وعلى بيئة الحوار العام في المجتمع. نستطيع القول إن التسلطية السياسية أدت إلى تأميم الدين وتوظيفه في العمليات السياسية، والاعتماد على المؤسسة الدينية الرسمية كأحد أجهزة الدولة ذات الوظائف الأيديولوجية الدينية والتعبوية، ومن ثم ساندت النظام المصري في سياساته الاجتماعية والداخلية، وفي سياسته الخارجية تجاه الإقليم، وإزاء الدائرة الإسلامية. من ناحية أخرى أدى ذلك إلى تشكل نمط من التسلطية الدينية الوضعية، من حيث احتكار تفسير وتأويل النصوص الدينية والفقهية، والذود عن هذا الدور والتصدي للرؤى والتفسيرات والتأويلات الأخرى من بعض الجماعات الدينية السياسية في مصر وخارجها. العلاقة وثيقة العرى بين النظام التسلطي، والمؤسسة الدينية الرسمية أدت إلى إنتاج نمط مواز من التسلطية الدينية، التي تعلي من شأن العقل النقلي والموروثات الدينية التاريخية الوضعية، وإضفاء مس من القداسة عليها والهيبة والانصياع لها، ومن ثم للقيم التقليدية القديمة والمحافظة، والتي سادت في بعض المجتمعات الإسلامية في سياقاتها التاريخية، ومن ثم خضعت لظروف ومشكلات وأسئلة عصورها، وأنتجت إجاباتها عليها، وبعضها تم تجاوزه كأسئلة وإجابات بل ومشكلات، واستجدت أسئلة ومشكلات وتحتاج إلى اجتهادات خلاقة تعتمد على تفسير وتأويل ديني تجديدي، إلا أن ظروف المؤسسة الدينية، وطبيعة تكوين رجالها لم يستطيعوا أن يتجاوزوا في غالبهم الأطر التكوينية لهم، وهي نقلية بامتياز، وكذلك طبيعة العملية التعليمية السائدة منذ عقود كثيرة والتي تعتمد على الحفظ والتكرار والاستدعاءات المستمرة للموروث وليس الاجتهاد في فهم النصوص وتأويلها، واستنتاج إجابات عن أسئلة عصرنا. من ناحية أخرى شكّل دعم النظام للمؤسسة ورجالها ومشايخها، أحد القيود على حركتها، وإنتاجها، في ظل الضوابط المفروضة على حريات الرأي والتعبير، والحرية الدينية، ومن ثم لم تستطع المؤسسة أن تخرج عن هذه القيود في إنتاجها الفقهي والإفتائي والدعوي، ومن ثم لم تكن ثمة استجابات -إلا استثناءً- للتحديات التي تواجه المجتمع والإنسان المصري، السياسية والروحية والدينية والاجتماعية. من ناحية أخرى، لم تكن هناك بشائر للتغيير في الفكر الديني المصري، أو اجتهادات، تشكل حافزًا أو تحديًا لبعض مشايخ الأزهر كي يشاركوا في إبداء آراء اجتهادية، لأن الجماعات الإسلامية السياسية، وعلى رأسها الإخوان المسلمون، والجماعات الراديكالية على تعددها واختلافاتها الأيديولوجية كانت تنتقد بشدة مشايخ الأزهر والمؤسسة معًا. يمكن القول أيضًا إن الأيديولوجيات الإسلامية الراديكالية أسهمت بقوة في خلق ضغوط على المؤسسة الدينية من خلال الانتقادات الشديدة لها، وفي ذات الوقت أدت إلى إشاعة بيئة للفكر الديني المحافظ، والنقلي الطابع، ناهيك بأن بعض مشايخ الأزهر مالوا إلى النزعة السلفية والغلو في آرائهم، على نحو ما ظهر جليا في المراحل الانتقالية، بعد حكم جماعة الإخوان والسلفيين وهجومهم على شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب، ومحاصرة مبنى الأزهر الشريف. من ناحية ثانية: ضغوط تظاهرات طلاب وطالبات الأزهر من الإخوان المسلمين لبعض عمداء وعميدات الكليات، ومبانيها، وذلك كنتاج لتمدد الإخوان والسلفيين بين بعض الطلاب والطالبات في الكليات والمعاهد المختلفة. من ناحية ثالثة: أدت الفوضى السياسية والأمنية في ظل حكم جماعة الإخوان والسلفيين، والفجوات الأمنية إلى انفجار آلة الفكر النقلي المحافظ والمتشدد وانتشارها، وتشكيل محاكم شرعية من بعض من تدربوا على القضاء الشرعي إلى ضغوط مكثفة على الأزهر ومشايخه. (تم تدريب خمسمئة -500- قاض شرعي للقضاء في الخصومات بين المواطنين، خارج قضاء الدولة). من ناحية رابعة: تأثرت المؤسسة الدينية الرسمية بالبيئة الدينية السلفية والوهابية والإخوانية المحافظة في المنطقة العربية، على نحو أدى إلى توافق بعض المشايخ مع هذا الاتجاه المسيطر الذي يعكس نمط التدين السائد في إقليم النفط، وفي أجهزته الإعلامية ومؤسساته الرسمية، وجمعياته الإسلامية الدعوية ومؤتمراتها والاتجاهات التقليدية السائدة فيها والتي تتسم بالمحافظة الشديدة والنزعة الذكورية الغلابة، والمواقف المتشددة إزاء الأقليات الدينية، أو ذوي الأفكار والمفاهيم الحداثية والعلمانية. من ناحية خامسة: شيوع حروب الفتاوى الدينية -بتعبير جميل مطر- أثرت سلبًا على الفكر الديني على الأسواق الدينية في المنطقة العربية وفي مناطق عديدة من الدول الإسلامية، بين بعض الغلاة من رجال الدين. من ناحية سادسة: استخدام بعض الغلاة من رجال الدين سلاح التكفير الديني للخصوم، لا سيما في إطار الجماعات الدينية الراديكالية، وهو ما أدى إلى إشاعة الخوف لدى بعض المشايخ، وكبح أية محاولات للاجتهاد خارج أطر الأفكار والفتاوى النقلية والمتشددة الشائعة في السوق الدينية. من ناحية سابعة: بروز الحروب المذهبية المسيسة بين السنة والشيعة كجزء من الصراعات الإقليمية بين بعض الدول العربية كالسعودية ودول الخليج، وبين إيران وحزب الله، وجماعة الحوثي في اليمن، وبعض المكونات الشيعية في دول المنطقة، وذلك كمظلة أيديولوجية دينية، يتم تحتها التعبئة الدينية السياسية لأغلبية "مواطنيها"، ومؤسساتها الدينية الرسمية والأهلية في مواجهة التمدد الإيراني في الإقليم. ويلاحظ أن بعض المؤسسات الأمنية والاستخباراتية في المنطقة تبنت هذه الأيديولوجية لضبط الأمن داخل بلدانها، وفي التغطية على عملياتها الداعمة ماليا، وعسكريا وسياسيا لبعض المنظمات الإسلامية، الراديكالية ذات الطابع العنيف والإرهابي في العراقوسوريا مثل "داعش"، والنصرة، والجماعات السلفية الجهادية، التي وظفت الغضب السياسي الجماهيري السني في أعقاب سقوط النظام البعثي في العراق، والأزمة الكبرى في سوريا، فضلا عن انتشار بعض جماعات العنف الديني في ظل انهيار الدولة في اليمن وليبيا. لا شك أن هذه البيئة الإقليمية المضطربة، وانتشار العنف الإرهابي أسهمت في إنتاج عديد القيود على الفكر الديني داخل المؤسسات أو خارجها، وبعض الاجتهادات النادرة طرحت على نحو فردي واستثنائي. القيود السابقة وموروثاتها على حرية الفكر الديني والفكر عمومًا، هي بذاتها من الأسباب الدافعة لضرورة تجديد الفكر عمومًا، والديني على وجه الخصوص. من ناحية أخرى من الصعوبة بمكان تجديد الفكر الديني دون تجديد الفكر السياسي، والفكر عمومًا، ودون إصلاحات سياسية تكرس للحريات العامة والشخصية، ومن ثم لا تجديد للفكر الديني دونما تجديد للفكر عمومًا. وللحديث بقية.