في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك ظلت السياسة الدينية للنظام والنخبة الحاكمة تعيد إنتاج الأهداف والوظائف السياسية للدين عمومًا، والإسلام على وجه الخصوص، ومن ثم كانت تعبيرًا أمنيًا عن التحالف بين نمطين من التسلطية، وهما التسلطية السياسية والدينية، وتمثلت في استخدامات الإسلام في العمليات السياسية، كأداة من أدوات التبرير والتعبئة السياسية والاجتماعية لخطاب النظام، وكمصدر من مصادر الشرعية السياسية. من ناحية أخرى ثم إدخال بعض المدخلات والوظائف إلى السياسة الدينية التسلطية التي أثرت سلبًا على الفكر والخطابات الدينية النقلية ويمكن تحديدها فيما يلي: 1- عودة المصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين في أعقاب تجاوز أزمة سبتمبر 1981، التي تم خلالها اعتقال قيادات المعارضة السياسية وبعد اغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات، والمواجهات الضارية بين أجهزة الدولة الأمنية وبين تنظيم الجهاد، والجماعة الإسلامية، ظهرت سياسة الإدماج الجزئي لجماعة الإخوان، في المؤسسة / السلطة التشريعية، وذلك بالسماح لهم بالتحالف مع حزبي الوفد والعمل في الانتخابات البرلمانية لمجلس الشعب، ومن ثم نجاح ودخول بعض مرشحيهم كأعضاء. هذه السياسة الإدماجية الجزئية رمت إلى تحقيق ما يلي: 1- المشاركة السياسية الفعلية الجزئية في الانتخابات، ودخول البرلمان، لكي تظهر بعض فعاليات الجماعة وأفكارها الأيديولوجية ومواقفها السياسية علانية، بما يسمح لأجهزة الدولة بمتابعتها على المستويين العلني والسري، مع استمرارية حظرها من الناحية القانونية، لإعطاء شرعية قانونية في عمليات تعقب أعضاءها، وقادتها، والقبض عليهم وتقديمهم للمحاكمات القضائية أمام القضاء العادي، أو القضاء العسكري. 2- الضربات الأمنية الوقائية والإنذارية لبعض "كوادر" الجماعة من مستويات تنظيمية مختلفة ومناطق مختلفة، وتبدو كرسالة أمنية / سياسية إلى مكتب الإرشاد، وغالبًا ما كانت الجماعة تُجيد فهم هذه الرسائل سياسيًا وتنظيميًا. 3- الاحتواء الأمني الذي يرمي إلى تخفيض معدلات خطر الجماعة، رثيما تتصدى بصرامة للجماعات الإسلامية الراديكالية – الجهاد والجماعة الإسلامية ... إلخ – التي مارست أعمالاً مفرطة في عنفها إلى حد القتل والحرق والتدمير، ووقوعها تحت طائلة وصف الإرهاب وفق قانون العقوبات المصري. هذه الأهداف الثلاثة شكلت السياسة الأمنية تجاه جماعة الإخوان المسلمين، إلا أن ذلك أتاح للجماعة أن تتمدد وتؤسس شبكات اجتماعية، وسط الفئات الوسطى الصغيرة، والشعبية من خلال الخدمات الاجتماعية التي كانت تقدمها في التعليم والصحة والمعونات النقدية والعينية لبعض الفقراء والمحتاجين من المواطنين في بعض المناطق الشعبية في المدن، وبعض القرى، على نحو أتاح لها أرضية اجتماعية تتحرك من خلالها لنشر أفكارها الأيديولوجية الدينية الدعوية، وتجنيد عناصر جديدة في التعليم الثانوي، وفي الجامعات، والأزهر، وكذلك بين مدرسي ومدرسات التعليم العام. من ناحية أخرى تطوير وتمدد مشروعاتها الاقتصادية والتجارية. من ناحية أخرى أتاح التمدد الدعوى والتنظيمي للجماعة توظيف الثقافة ذات الأصول القروية / الريفية في المدن وأجهزة الدولة في تجنيد بعض موظفي الدولة والعاملين فيها، خاصة في ظل انتشار الفكر السلفي وجماعاته، لاسيما أن المكون السلفي أساسي في أيديولوجية حسن البنا المرشد العام الأول، وأفكار الجماعة الأساسية، نقلاً عن أستاذه رشيد رضا. ركزت الجماعة على إعادة إنتاج أفكارها، وعلى إطلاق بعض المبادرات / البيانات السياسية حول المرأة، والتعددية السياسية والآخر الديني في هذا بيان للناس، وذلك بهدف تجميل صورتها السياسية لدى القوى السياسية المعارضة من ناحية، وكرسالة طمأنة حول نزوعها للاعتدال السياسي للنظام والأقباط وبعض الشرائح المدينية الوسطى – الوسطى، والوسطى العليا، من أنها تتجاوب إلى حد ما مع نمط حياتها العصري والمدني التي اعتادت عليه منذ نهاية القرن التاسع عشر مع مطالع عمليات التحديث، والأفكار الحداثية المبتسرة. القوى الإسلامية السلفية اتخذت منحى آخر، حيث ركزت على العمل الدعوي والاجتماعي بنشر أفكارها المحافظة، وتركيزها على نظام الزي وعلاماته، من النقاب والإسدال للنساء، وتربية اللحى وارتداء الجلباب للرجال، مع تطوير شبكاتها الاجتماعية من المعونات العينية والنقدية والخدمات الطبية وتعليم القرآن وشروحه، والسنة النبوية، ومآثر وميراث السلف الصالح. ساعد على هذا التمدد السلفي في إطار سلفية الإسكندرية، وسلفية القاهرة، تمدد الفكر السلفي والوهابي وشيوخه لدى السلفيين وشيوخهم في مصر. من ناحية أخرى إبداء عدم اهتمامهم بالسياسة، بل ودعمهم للنظام وأجهزته على نحو سمح لهم بالتمدد الدعوي، وداخل المساجد، وبين بعض طلاب وأساتذة الأزهر، وبعض موظفي الدولة وعمالها، واستغلال طقوس الصلوات اليومية في التعبئة الدينية، وإنتاج بيئة نفسية وروحية ملائمة لحضورهم داخل أجهزة الدولة. من ناحية أخرى الدعوة في بعض المركبات العامة وعربات النقل الخاص عبر شرائط الكاسيت لكبار مشايخ الحركة السلفية، أو من خلال الملصقات في المركبات العامة، أو على الحوائط وجدران المباني والمصاعد الكهربائية. نستطيع القول أن التمددات الدعوية والتنظيمية والتجنيدية لجماعة الإخوان والسلفيين نجحت في تحقيق عديد من أهدافها التي ظهرت في أعقاب انتفاضة 25 يناير 2011 التي رفضتها صراحة جماعة الإخوان وشيوخ الحركة السلفية، ثم سرعان ما تم توظيفها سياسيًا لصالحهم. أدت نجاحات الإخوان والسلفيين الدعوية والتنظيمية وبروز حواضن اجتماعية لكليهما، إلى استمرارية الفكر النقلي وإعادة إنتاج بنيات الأفكار الدينية المحافظة والمتشددة السلفية، وذلك دونما إيلاء أية أهمية للأسئلة والمشكلات الجديدة التي تواجه الإنسان المصري المسلم، أو إلى طبيعة التعدد الديني في المجتمع المصري ذو الأغلبية الإسلامية. من ناحية ثانية: جاءت مبادرات الحوار والمراجعات الدينية داخل السجون المصرية من أجهزة الأمن تجاه للمحكوم عليهم في قضايا جنائية من الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد، والتي شارك فيها بعض أساتذة جامعة الأزهر، إلى إصدار الجماعة الإسلامية سلسلة من كتب المراجعات زائعة الصيت، إلا أن إمعان النظر تشير إلى أنها ذات طابع تقليدي، ولا تشكل نقلة تجديدية في الفقه والتفسير الديني، وإنما تم اللجوء إلى بعض الآراء الفقهية التقليدية الأخرى لنقد ممارسة العنف في الممارسة الدينية السياسية. في هذه المرحلة التاريخية طرح موضوع تجديد الخطاب الديني من قبل السلطة السياسية، على قادة وأساتذة ومشايخ الأزهر، إلا أنها لم تحدث أي تجاوبًا حقيقيًا، وذلك لأزمة المؤسسة الدينية الرسمية، والطابع المحافظ والمتدد السلفي والإخواني بين بعض طلابها، ومشايخها، خاصة أن استمرارية المحافظة شكلت أحد أدوات التوازن بين الأزهر ومشايخه، وبين الإخوان والسلفيين والجماعات الإسلامية الراديكالية، لاسيما أن هؤلاء كانوا يهاجمون مشايخ الأزهر ويحاولون التأثير على مكانتهم الاجتماعية والدعوية والفقهية بمقولة أنهم تابعون للسلطة ومؤيديون لها. يمكن القول أيضًا أن بعض مشايخ الأزهر ودعاة وزارة الأوقاف وجدوا في المحافظة والتشدد في التأويل والتفسير النقلي، آداة لهم للحضور في الأسواق الدينية – وفق المصطلح السوسيولوجي للسوق الديني – الوطنية، والإقليمية والكونية، كي يظلوا أحد اللاعبين داخلها، وتنشيط الطلب الديني على خطاباتهم المحافظة والمتشددة والعنيفة لدى بعضهم في إطار خطابات أخرى راديكالية ومتشددة وعنيفة منافسة. النظام التسلطي، ركز اهتماماته على المواجهات، الأمنية دونما رؤية إصلاحية، أو تجديدية دينية في مناهج التعليم العام، أو في التعليم الأزهري أو توظيف الثقافة في خلق عقل ديني ومدني تجديدي ونقدي قادر على تغيير المزاج العام المحافظ لدى بعض الأجيال الشابة، أو لدى المدرسين والمدرسات، أو أساتذة الجامعات، ومن ثم كانت دعوى أو طلب تجديد الخطاب الديني بمثابة شعار سرعان ما تم نسيانه، لأنه لم يعتمد على رؤية وسياسة دينية إصلاحية وتجديدية، ومعها إصلاح في النظامين التربوي والتعليمي، وفي السياسة الثقافية الرسمية، ناهيك عن صعوبة تجديد أو إصلاح للفكر والمؤسسات الدينية، دونما إصلاح سياسي جاد. السياسة الدينية التسلطية للنظام انكشفت آثارها السلبية على التطور السياسي في أعقاب 25 يناير 2011 وصعود الإخوان والسلفيين إلى سدة السلطة في انتفاضة 25 يناير 2011 المغدورة التي حصد ثمارها من رفضوها في البداية ولم يشاركوا فيها.