الدنيا تتغير، فلماذا نقف ساكنين ثم نشكو من الاختراق والغزو الثقافي والتدفق الخبري والهيمنة وضعف الاقتصاد وسوء الرواتب وزيادة التضخم وعدم قدرة الدولة على الوفاء بمتطلبات مواطنيها الأساسية؟ واجه العالم الغربي أزمة مالية طاحنة في 2005 وهي الأزمة المالية المعروفة فماذا فعل؟ لجأ إلى إطلاق طاقاته في الصناعات الثقافية فسبب الأزمة الرئيس أن المنتجات تسير على الأرض فيما المال يطير في السماء عبر التحويلات، ونتيجة لهذا التحول فقدا أصبح الاقتصاد الابداعي هو الأكثر ثباتًا واستقرارًا وتضاعفت صادراته في العالم خلال المدة من 2002 إلى 2009 لتصل إلى 712 مليار دولار....وبلغت القيمة المالية لاقتصاد الإبداع حوالى 3.1 تريليونات دولار في 2005، وفي العام 2007 بلغت 4 تريليونات دولار وفي العام 2009 بلغت نحو 7.1 تريليونات دولار وهي تنمو بمعدل 8% سنويًا على الأقل. فيما نهدر نحن كل يوم فرص التقدم أو المواكبة أو اللحاق أو الوجود. تحديد المشكلة أول طرق العلاج، والمشكلة هي تراجع الاقتصاد المصري بشكل مفزع، والحل هو العمل المنظم واستثمار كل الإمكانيات الموجودة في مصر أو يمكن إيجادها، وإن من هذه الإمكانيات الصناعات الثقافية التي أظن أن مصر تمتلك مقوماتها وإن كانت لا تمتلك الصناعات ذاتها... لماذا؟ بمثال علمي بسيط نقول إن وجود علماء لا يعني أننا في مجتمع علمي، مثله تماما ومثل وجود أشعة الشمس المتناثرةالتي تحتاج إلى عملية منظمة لتتحول إلى ليزر قادر على علاج الجروح وإزالة الأورام وتقطيب الجروح... ونحن هنا لدينا الأشعة المتناثرة وليس لدينا الليزر الذي نحتاج إليه للخروج بنا من العزلة البائسة التي ألقينا أنفسنا فيها... لنتعرف معا على ماهية الصناعات الثقافية. وفق تعريف اليونسكو ل''الصناعات الثقافية'' فهي : الصناعات التي تنتج وتوزع النتاج والخدمات الثقافية بحيث يتبين لدى النظر في صفتها أو أوجه استخدامها أو غايتها المحددة أنها تجسد أو تنقل أشكالا للتعبير الثقافي بصرف النظر عن قيمتها التجارية'' تطورت الصناعات الثقافية عن هذا التعريف الأولي ويمكن لتبين ذلك النظر في الأمثلة التالية: تبدأ من صناعة الأقلام والورق والأدوات التقنية من أقراص وأشرطة ثم تتطور نحو تصنيع الأجهزة والبرمجيات وإنتاج المواد الثقافية مرئية ومسموعة وإلكترونية، والمواقع الإلكترونية وقنوات التواصل الاجتماعي والمتاجر الإلكترونية مثل متجر آبل وأمازون وسكريبد وسلايد شير. كما يدخل في إطارها دعم الصناعة التراثية ورعاية المواقع الأثرية.... هل تريدون تخيل حجم المكاسب.؟ تصل منتجات الصناعات الثقافية إلى 10 في المائة من إجمالي الصناعة العالمية، ووفق تقرير برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي بالتعاون مع "الأونكتاد"-المنظمة المتخصّصة بشؤون التجارة والتنمية الدولية- الصادر في ديسمبر 2010 فقد حقّقت الصناعات الثقافية أو الإبداعية، ثروات هائلة للعديد من اقتصادات الدول الغربية، ولاسيما دول الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة، وأحدثت طفرة في اقتصادات دول شرق آسيا، مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا.. فعلى سبيل المثال فإن اقتصاد للصين تفوّق وبفارق كبير على كلّ اقتصادات الإبداع العالمية الأخرى، إذ استحوذ خلال المدة من 2002 إلى 2008 على 21.6% من السوق الدولية، بينما جاء ترتيب الولاياتالمتحدة، وخلال المدّة عينها، في المرتبة الثانية، حيث استحوذت على8.4% من هذه السوق. أما نحن: 1- لا توجد لدينا سياسة ثقافية تدعم هذه الصناعات، ولا توجد البدهيات لها في ذهن المسؤولين؛ وبالتالي لا يتم إدراج متاحف وزارة الثقافة أو الآثار على البرامج السياحية للشركات التي تحصل على نسبة تخفيض كبيرة لهذا الغرض وفق الشروط العالمية. 1- لا نمتلك متجرا عربيا إلكترونيا حقيقيا، يصدر بيانات صادقة، أو يعمل بشكل علمي؛ فقد تابعت عن قرب مثلا تجربة توصيل الكتب إلى المنزل بعد تسجيل المشتري لها على موقع إلكتروني التي قامت بها إحدى الشركات في معرض الرياض 2013، بالتعاون مع مؤسسة حكومية كبرى، وكان المبلغ الذي تم شراء الكتب به لا يتعدى خمسين ألف ريال، ولم يتم تنفيذ الخدمة آخر أيام المعرض، وفوجئت بالتصريحات تقول إن التعامل فاق الملايين.... لكن هل نمتلك الضوء المتناثر؟ الحقيقة أننا نمتلك كل شيء عدا الخطة والشفافية والإحساس بقيمة العمل وترجمة هذا الإحساس إلى فعل، نمتلك الموارد البشرية التي تثبت نفسها في كل مكان عدا مصر، نمتلك المقدرات الأولية، الآثار التي صارت تجارتها عيانا بيانا، والوثائق التي تضيع بالإهمال أو بالسرقة والاختلاس أو في التفجيرات، وسأضرب لكم مثلا بسيطًا: حينمت تم إنشاء مكتبة الإسكندرية تم إرسال الكتب والمخطوطات التي كانت موجودة في المطابع الأميرية إليها بالأمر المباشر، من هذه المخطوطات ما صدر في مطابع محمد علي الأولى، وما ظل مخطوطًا... لماذا لم تخرج هذه المخطوطات والكتب؟ وهل تم نقلها بدفاتر تسليم وتسلم أو بعربات نقل؟ ولماذا تم نقلها أصلا؟ لدينا المقومات المتمثلة في الإنتاج الثقافي قديمه وحديثه، والأفكار التي يتم تهريبها أو استخدامها في البلاد البعيدة التي تهتم بذلك، لدينا البنية المؤسسية المتمثلة في وزارات الثقافة والاتصالات والمعلومات والهيئات الثقافية واتحاد الكتاب ومراكز الترجمة... لكن الإهمال وغياب الخطة يعرقل الكثير... إذن فللحديث بقية. (المقال جزء من محاضرتي في معرض الكتاب عن الصناعات الثقافية في العالم العربي)