هذه الرسالة وصلتنى من الأستاذ محمد التركى، لم يسبق التعرف به، ولكن الرسالة تكشف عن شخص وطنى، مذعور مثلنا جميعًا، مهموم ببلد يبدو مضطربًا مثقلا بالمشكلات وعلى رأسها مشكلة الطاقة التى اكتشفنا جميعًا أن مصادرها قد نضبت.. فالغاز الذى كنا نصدره لإسرائيل والأردن وإسبانيا لم يعد موجودًا، كل وعود الاكتشافات البترولية قد تبخرت، أصبحنا نقف جميعًا على حافة الإفلاس من مخزون الطاقة، الأمر الذى دفعنا للتفكير بطريقة انتحارية، للبحث خلف مشروع نووى لم ندرس عواقبه، ويبحث الأستاذ محمد التركى فى أوراقه القديمة عن بعض الأحلام القومية التى لم يكتب لها الاكتمال، وما أكثرها، يقول فى رسالته: السيد الأستاذ/.......... أود الإفادة بأننى أتفق مع ما جاء بالمقال (يشير إلى مقال سابق تحدثت فيه عن مخاطر المشروع النووى المصرى) واسمح لى بأن أضيف الآتى أولًا: - إننا فى ستينيات القرن الماضى كان هناك حلم بمشروع قومى هائل لتوليد طاقة كهربائية بكم كبير من خلال استغلال مساقط مياه فى منخفض القطارة قرب الساحل الشمالى بعد توصيل قناة من البحر الأبيض إليه، وهناك مزايا أخرى هامة إضافة لذلك وهى:- (1) تكوين بحيرة مياه هائلة يتم استغلالها كمزارع سمكية (2) تحلية مياه البحر باستخدام الفائض من هذه الطاقة فى زراعة الأراضى حول البحيرة (3) إقامة قرى سكنية بالأراضى المستصلحة (4) إقامة منتجعات سياحية (5) المساعدة على زيادة البخر وزيادة الأمطار بالساحل الشمالى نتيجة لتكوين هذه البحيرة، وبالتالى زيادة الرقعة الزراعية باستخدام هذه الأمطار (6) تحسين المناخ بالساحل الشمالى (7) زيادة كميات المياه الجوفية بالصحراء الغربية.. إلخ. هذا ما أتذكره عن فوائد هذا المشروع القومى، والمؤسف فى الأمر أن المشروع توقف رغم جديته وجدية الدراسات الخاصة به وقد قرأت منذ نحو ثلاث سنوات فى جريدة «الأخبار» تحقيقا صحفيا عن المشروع بأنه فى أوائل تسعينيات القرن الماضى تم تكليف مكتب خبرة ألمانى بإجراء تحديث للدراسة الخاصة بالمشروع، خصوصا أن تنفيذ القناة بين البحر والبحيرة سيكون من خلال تفجير نووى محدود للمنطقة الصخرية الموجودة فى مسار القناة، وبانتهاء تحديث الدراسة تم تشكيل وفد من المختصين للسفر لمناقشة الدراسة مع المكتب الألمانى.. والمفاجأة أنه بمجرد وصول الوفد إلى مطار برلين قامت جهة سيادية بإبلاغهم بالعودة على الفور فى نفس اليوم.. والسبب كما ذكرته الجريدة أن المخابرات الأمريكية تدخلت لعدم تنفيذ المشروع لأسباب منها عدم إتاحة الفرصة للمصريين بالحصول على أية معلومات عن التفجيرات النووية، وطبعًا عدم إتاحة الإفادة من هذا المشروع الداعم للاقتصاد القومى، وبالطبع استجاب نظام الحكم لتعليمات ماما أمريكا. ثانيا:- أتفق مع سيادتكم تمامًا فى رفض مشروع استخدام الطاقة النووية لتوليد الكهرباء، وبالإضافة إلى الأسباب التى ذكرتها أضيف: هل نملك الحق المطلق والمؤمَّن للحصول على الوقود النووى بالاستيراد من الخارج أو حق تخصيب اليورانيوم، وختامًا أود أن أضيف أن ما أوردته من أمثلة، بالجزء الأول بالمقال، عن الترهل والفوضى العارمة بالجهاز الحكومى يتعين معه ضرورة البدء وفورًا فى مشروع قومى آخر.. هو إعادة هيكلة الجهاز الإدارى والمالى للدولة بهدف الوصول إلى الدولة الحديثة وترشيد المصاريف الهائلة فى الإنفاق العام، وأفيدكم أنه من خلال عملى المهنى بالبنوك وقيامى بقيادة مشروعات لإعادة الهيكلة بها فقد أعددت دراسة بهذا الخصوص، ويسعدنى أن تتبنى جريدة «التحرير» فكرة لعقد ندوة يحضرها السادة المخلصون الوطنيون، أعرض بها هذه الدراسة مع استعدادى لتحمل التكلفة أو جزء منها لغرض بناء هذا الوطن على أساس سليم باستخدام المنهج العلمى الذى افتقر إليه متخذو القرار... آسف على الإطالة. وبداية فإننى أشكر الأستاذ محمد التركى على رسالته، وعلى عرضه الكريم بإقامة ندوة حول الإدارة المصرية وتحمله تكاليفها، أو بعضها على الأقل، والحقيقة أن هذه الإدارة هى سبب التخلف الذى نعيشه، والذى سيستمر لفترة طويلة طالما هذه الفئة متشبثة بمقاعدها ومستمرة فى تعطيل المراكب السايرة، ومشروع منخفض القطارة حلم مصرى قديم، يثبت أننا لا نحسن استخدام هبات الطبيعة، تاريخيا.. يقال إن هذا المنخفض كان أكثر عمقًا من الآن، حتى إنه ابتلع فرقة كاملة من جيش الإسكندر الأكبر حين كان متوجها إلى سيوة، وقد نشأت فكرة تحويله إلى بحيرة منذ عهد الرئيس عبد الناصر، واعتبره البعض مكملا لمشروع السد العالى، وكان المتحمسون للمشروع يطالبون بنقل العاصمة المصرية من القاهرة لتطل على هذه البحيرة الجديدة، ولكن القلق كان حول مصدر المياه: هل تكون مالحة وتأتى من البحر المتوسط، ولكن الاعتراضات كانت كثيرة، فلا توجد دولة عاقلة فى العالم تدخل المياه المالحة إلى أراضيها، فسوف يتسبب هذا فى ملوحة الأراضى المجاورة، وسيتأثر مخزون مصر من المياه الجوفية بهذا الاقتحام المستمر للماء المالح، ولكن كان هناك رأى آخر يرى أن يكون المصدر هو النيل نفسه، المورد الذى وهب لنا الحياة على مدى آلاف السنين، أن يتم حفر ترعة طويلة تنشأ من خلف السد، من بحيرة ناصر نفسها، وأن تمتد شمالا مخترقة الصحراء الغربية حتى تصل للمنخفض، وبهذا لا تنشأ بحيرة عملاقة فقط، ولكن نظفر بوادٍ مواز أيضا، نكسب مصرًا جديدة غير التى تآكلت وازدحمت واختنقت، ولكن المشكلة أن مياه النيل الحالية لا تكفينا إلا بالكاد، بل إننا مهددون بأن تتناقص أكثر وأكثر بعد بناء السد الإثيوبى، أى أننا وصلنا إلى مأزق قاتل دون أن تتعامل الإدارة المصرية مع هذه المشكلة بالجدية اللازمة. كان الأمل أن ننجح فى تنفيذ قناة «جونجلى» فى جنوب السودان، وهو مشروع كان سيمكننا من الاستفادة من مياه النيل الأبيض الذى تضيع مياهه فى المستنقعات والمسارب الجانبية، ويضاعف حجم مياه النيل، ولكن الحروب الأهلية فى هذه المنطقة لم تهدأ، وظل النفوذ المصرى فى المنطقة آخذ فى الانحدار حتى أصبحت مشاعرهم معادية تمامًا، وهذه أيضا بعض أخطاء الإدارة المصرية. هكذا نرى كيف تتوالى الأخطاء ونحن نقف على حافة هوة تهدد مستقبل هذا الوطن، نحن مقبلون على أزمة طاقة لا مفر منها، ولن ينقذنا المشروع النووى، لأنه من مخلفات الماضى، وكل الدول التى سعت إليه ترفضه الآن وتبذل جهدها للتخلص منه، علينا أن نقتحم المستقبل ونبحث فى مصادر الطاقة البديلة مثل قوة الريح، واستغلال طاقة الشمس التى لا تنفد، لعلنا أخيرًا نستفيد من مصادر الطبيعة التى وهبها لنا الله، أما بالنسبة إلى المياه فلا مفر من العودة إلى قناة جونجلى، وإلا فسوف يصيبنا السد الإثيوبى بالجفاف والعطش. يبقى أن نشكر الدعوة الكريمة التى طرحها الأستاذ محمد التركى لعمل ندوة حول إعادة هيكلة الجهاز الإدارى والمالى للدولة، وهو اقتراح مهم أرجو من جريدة «التحرير» أن تتبناه، وأن يتم التنسيق مع القارئ العزيز لعلنا نصلح شيئا من أمر مصر.