هكذا هى دائما الأغنية، أقوى وأسرع انتشارا من الشعارات والهتيفة والأحزاب الكرتونية، فهى تصلك أينما توجهت. ورغم أن الحلم بسيط متواضع فى العيش بحرية وكرامة إنسانية وعدالة اجتماعية، وربما يضاف إليها «أغانٍ وطنية»، فإن هذا الحلم البسيط كان صعب المنال بين ثورة 25 يناير الى ذروتها فى 30 يوليو، اجتهد مَن اجتهد، فأخفقنا كثيرا ونجحنا أحيانا، ورُحنا نبحث عن السلوى لدى مبدعينا الكبار، وما خذلونا أبدا، بليغ حمدى والأبنودى وجاهين وعلى إسماعيل ووردة وشادية وعبد الحليم وغيرهم الكثير، فدارت الأشرطة والتسجيلات عبر مكبرات الصوت فى الميادين، منشدة «وانا على الربابة باغنّى» و«عدَّى النهار» و«بسم الله. الله أكبر» و«عاش اللى قال»، إلى آخر هذا الموروث العظيم الذى نُقل وحُفظ ودُوِّن فى وجدان الشعوب العربية إلى ما شاء الله. ونحن على هذا الحال، وهيلا هوب هيلا، كى نرتاح من الشيلة، إذا بلحن شجىّ بسيط مصحوب بأصوات جميلة، تغنى وتغنى.. «تسلم الأيادى.. تسلم يا جيش بلادى» وما زال الصوت مسترسلا من فوقنا ومن تحتنا ومن التلفاز والتوك توك والميكروباص وعبر أثير محطات المترو والغيطان، وفى حشود المظاهرات والمنصات. «تسلم الأيادى» من كلمات وألحان مصطفى كامل، صاغها نثرًا فى أبيات ثلاثية، تصف شعور المصريين الجميل نحو قائد الجيش والشرطة ورجالهما، وتدعو إلى الوحدة الوطنية وتمجِّد الشهداء. أما اللحن فهو من مقام «الهُزام»، ومقام «الهزام» هو الدرجة الثالثة من مقام «الراست» والإيقاع المصاحب إيقاع «مقسوم» ثنائىّ الضرب بسيط، يسهل التصفيق عليه، ومقام «الهُزام» صيغت منه ألحان كثيرة منها «يا عشّاق النبى» لسيد درويش، و«تعب الهوى قلبى» لمحمد فوزى، و«غريب الدار» لعبده السروجى، و«قولّى عملك إيه قلبى» لعبد الوهاب، و«هلّ البدر بدرى» لشريفة فاضل والكثير والكثير. فمقام «الهُزام» مقام عربى أصيل يغلب عليه طابع الشجن كما أنه يستخدم فى الألحان الفرحة، ونادرا ما يستخدم للألحان الوطنية، فكان جرأة من الملحن أن يستخدم هذا المقام لأغنية وطنية، كما استخدم النصف الأسفل من المقام وليس المقام كله مما أوقعه فى شَرَك الاتهام بسرقة اللحن، والأمر غير ذلك تماما، لأن السرقة يجب أن تكون لأربعة موازير كاملة أو أكثر، وهو غير حاصل فى هذه الحالة. مقام «الهُزام» شديد التباين ومن السهل تمييزه عن مقامات كثيرة، فأوقعه ذلك فى الاتهامات، ولكن أقول قد تشابه عليهم الأمر، فلا اللحن مسروق ولا يحزنون. إذن نحن أمام مقام شعبى جميل وإيقاع شعبى بسيط وكلمات جميلة، ومثل هذا حدث كثيرا. إذن.. ماذا حدث؟ وما سر انتشار هذه الأغنية، فالمناخ والتوقيت التى ظهرت فيه الأغنية مفعم بالثورية والوطنية، وقائد عظيم للجيش أيقظ المشاعر وصحصح الأمل، فأجمعنا على أن نقول للرجل «شكرا»، ولكن متى وأين؟ وإذا ب«تسلم الأيادى.. تسلم يا جيش بلادى» ترفع عنا الحرج وتصل بنغماتها إلى عموم الناس. وفى أداء فخيم معتبر ومن الأراضى، أى منطقة القرارات، شدا سمير الإسكندرانى «هوّ ده اللى حامى لى أرضى.. ده اللى واقف على الحدود.. بيحمى مالى ويحمى عرضى.. أهله مش ضامنين يعود.. ده اللى على شط القنال.. كان قلبه أقوى من البارود». أما الفنان هشام عباس فقام بكل أريحية وبساطة بغناء الكوبليه الخاص به من مقام «الهزام» كذلك، ولا نستكثر عليه ذلك وهو اتعجن واتخبز فى «أسماء الله الحسنى» لسيد مكاوى. أما الفنانة غادة رجب فلم تخفق ولكنها ظُلمت هى وباقى المطربات، وذلك لعُلوّ «التون» الطبقة الصوتية التى كانت مناسبة للرجال فقط، ولو كانت طبقة مناسبة لأجادت وأفاضت كعادتها، وعموما كل المطربات مشكورات لاجتهادهن، وكانت المخلصة لهن المطربة سوما حيث تطوعت أن تغنى اللحن العالى من الأغنية عوضًا عن زميلاتها، فكان أداءها فى الغناء من منطقة الرأس، والمطربة بوسى وصوتها الذى يشبه آله الأرغول المصرية، عملت ما عليها وتركت المهمة الصعبة للمطربة سومة كما هو متفق. المطرب حكيم من محبى مقام «الهُزام» وكان أداؤه بطريقته المعتادة، وكنا نأمل أن يكون مختلفا ولكن ماذا تعمل للحماسة الفياضة منه. ونأتى لحُسن الختام من المطرب إيهاب توفيق عندما غنَّى: «تسلم الأيادى اللى شالت قلب أقوى من الحديد.. هات لى أم دموعها سالت قلبها فرحان سعيد.. أمّ مين دى غير أمى وأمك.. تسلم أم الشهيد». عليكم أن تعيدوا الآن المقطع مرات ومرات لسماع كلمة «شالت»، فقد وصل إيهاب إلى إحساس اللحن وليس المقام، وقام ب«عفقه» عفقًا جميلا ليِّنًا ينتزع منك ال«آه» وكلمة الله.. فعلا إنه دارس مُحنك موهوب. أما خالد عجاج فكان المأمول أن يعطينا أكثر من ذلك، ولكن ما حيلته والمقطع المغنَّى قصير جدا ولكنه فى نهاية المقطع قام بالتوقيع عندما قفل الكوبليه من منطقة الجوابات فى حِنكة ودراية. وأخيرا إذا ما قدِّر لهذا العمل أن يعاد تسجيله بآلات أكثر وإنتاج أغنى وتوزيع أحدث، بمشاركة مطربين ومطربات آخرين، فهل سيكون العمل أفضل؟ نعم، ولكن هل سيأخذ نفس النجاح؟ لا أعتقد.