(1) وهوه يعنى الجنسية المصرية ح تزعل مثلًا لو مُنحت لمحمد خان؟!! يكفى أن تذكر اسمه هكذا مجردا من دون أى ألقاب لكى تستدعى مصر نفسها مش الجنسية المصرية، بلدنا ومدنها وشوارعها وناسها وأفراحها وأحزانها وفرسانها وقد تحولت إلى أطياف متحركة تحمل توقيعه، طيب خلوا الجنسية المصرية ذات نفسها تشوف فيلم «الحريف» أو «أحلام هند وكاميليا»، واللى تحكم بيه يمشى، يعنى إيه محمد خان يكتب من جديد: «إلى من يهمه الأمر.. هل من الممكن لحكومة الدكتور الببلاوى أن تمنحنى الجنسية وأنا فى العقد السابع من عمرى قبل فوات الأوان؟»، هوة الموضوع ده لسه ما انتهاش؟ ناس كتير كتبت تعليقات مواسية: «وهوة أنت محتاج ورقة تثبت مصريتك؟ كل فيلم من أفلامك وثيقة جنسية، ده أنت أكتر مصرية من كثيرين»، مافيش ما يثبت أن الراجل ده مصرى أكثر من تمسكه بالورق، من تمسكه بحقه، إن شالله يتنازل عن الجنسية تانى يوم ياخدها فيه، بيرم التونسى لم يتنازل عن حقه فى ورقة مصريته، القانون اتعمل علشان يحقق العدل، وعلشان يعترف بأقدار الناس وقيمتها، إذا كانت الأوراق مش مهمة، طيب عملتوها ليه؟ مين اللى اداكم الحق تختصروا الوطن فى وثيقة؟ طيب خان عنيد ومش ح يسيب حقه، آه يا بلد الورق والأختام. (2) لو أصبح محمد خان مخرجًا فى الخمسينيات، لكانت أفلامه أقرب إلى عالم هنرى بركات وعز الدين ذو الفقار منها إلى عالم صلاح أبو سيف وتوفيق صالح، ولكنه نضج واستوى فى الستينيات، حقبة التغييرات الاجتماعية الهائلة، وزمن صعود الطبقة الوسطى، وعصر الاحتفاء بالغلابة والبسطاء، وأيام الشهد والدموع، فأصبح، مثل كل أبناء جيله، شديد الحساسية لتفاصيل الواقع، لديه رادار داخلى يرصد انقلاب الأحوال والظروف، امتزجت رومانسية خان بواقعية لم تؤثر أبدًا على جوهر رومانسيته، تطل داخل أفلامه فى صورة أبطال يتبعون قلوبهم، وفى شكل البحث الدائم عن فارس، وفى لمساته الساحرة فى مشاهد الحب، وفى احتجاجه العنيف على كسر القلوب، وجرح المشاعر، بعض بطلاته كأنهن خرجن توًّا من أفلام الأبيض والأسود، نوال فى «موعد على العشاء» ضاعت بعد أن قتلوا حبيبها، خرجت من الخمسينيات فاحترقت بنار الثمانينيات، منى فى «زوجة رجل مهم» دهسها قطار السلطة، ولكن نجوى اقتحمت «شقة مصر الجديدة»، انتزعت حلمها وعادت به على أنغام ليلى مراد، فوارس خان ليسوا فقط الذين يحملون اسم فارس مثل بطل فيلم «الحريف»، ولكنهم كل الحالمين المحبطين الذين لم ولن يستطيعوا أن يضبطوا موجتهم على موجة الفوضى المجنونة، حسن بطل «سواق الأوتوبيس»، الذى اشترك خان فى كتابته، هو أيضا فارس مهزوم، شاكر بطل «عودة مواطن» فارس آخر معلّق فى المطار. قيمة أفلام خان فى أنها مزيج بين الواقع والحلم، أبطالها منغمسون فى الواقع، ولكنهم لا يتنازلون أبدًا عن الحلم، هذا ما يميزه عن مخرجى ما اصطلح على تسميته «الواقعية الجديدة»، هو فى رأيى أكثر مخرجى الواقعية.. رومانتيكية. (3) عندما التقيت محمد خان لأول مرة فى لجنة المشاهدة لمهرجان الإسماعيلية منذ عامين، قلت له: «أنت نشأت فى زمن عبد الناصر، ولذلك ظللت تبحث فى أفلامك عن فارس حتى وسط الغلابة»، ضحك وأعجبته الفكرة، ولكنه لم يعلّق أكثر، تستطيع أن تكتشف هذا الخط عند الجيل كله، الفن هو احتجاجهم المعلن على الإحباط، هو حربهم الجميلة على عصر القبح وقلة القيمة وغياب المعنى والهدف، هو نافذة النور وطاقة الأمل، ما لم يحققه الحلم تحفره السينما على شرائطها، فى صميم تكوين هذا الجيل أن لا يتوقف أبدًا عن العطاء، من قلب السينما التجارية، وببطولة نجومها، خرج تيار الواقعية الجديدة، بقروشهم القليلة، أنتجت شركة «الصحبة» فيلم «الحريف»، حفروا بصمتهم فى الصخور، نادية شكرى وعاطف الطيب وسعيد شيمى ومحمد خان وبشير الديك أخذوا بثأرهم ممن سرقوا أحلام البلد، صنعوا فنًا أكثر خلودًا من كل اللصوص، ضع عونى (حسن حسنى فى سواق الأوتوبيس) بجوار عزت أبو الروس (حسين فهمى فى موعد على العشاء) بجوار هشام (أحمد زكى فى زوجة رجل مهم) لتعرف أعداء هذا الجيل، أفلام محمد خان ليست سياسية بالمعنى المباشر حتى لو كان «زوجة رجل مهم» فيلمًا عن الانحراف بالسلطة، ولكنها أفلام سياسية بالمعنى العام والأعمق، لأنها مستودع التغييرات التى حدثت فى الوطن منذ الستينيات وحتى اليوم، لا صخب ولا ضجيج، مجرد صور وأفكار وشخوص، محنة شاكر واغترابه فى «عودة مواطن» أوجع من أى هتاف، وهروب عطية من المدينة إلى القرية فى «خرج ولم يعد» أقوى من أى مانيفستو، و«زوجة رجل مهم» رثاء مؤلم للرومانسية أكثر مما هو هجاء للسلطة، إنه حكاية عن خيبة أمل منى، لا عن صعود هشام، الفيلم كله ليس إلا المجاز المعادل لفشل زواج الستينيات من السبعينيات، مثلما يمكن أن تعتبر أن «موعد على العشاء» هو المجاز الكامل لفشل زواج الرومانسية من البزنس، خان وزملاء جيله صنعوا أفلامًا أكثر خطورة من الأفلام السياسية الصريحة، لأنها أعمال تتسلل إليك بنعومة عبر التفاصيل والأحاسيس والمشاعر، لا تجعلك شاهدًا من الخارج، وإنما جزءًا من التجربة، وهذا سر تأثير تلك الأفلام العابرة للأجيال. (4) نهار خارجى -مجرد حلم: لما أبلغوا محمد خان أنه حصل أخيرًا على وثيقة الجنسية، قرر أن يحتفل بالمناسبة فى وسط البلد، على المقهى جلس مع أصدقائه داوود عبد السيد وخيرى بشارة، عشرات الشباب والصبايا يحيطون به، نسمع موسيقى كمال بكير مع ظهور نجوى ومنى ونوال، تنضم البطلات إلى المناسبة، إضاءة ناعمة تشبه نور الفجر، يهتف صوت مألوف فى سعادة: «مش قلت لك مسيرها تروق وتحلى؟».. كادر ثابت لرجل عادى يبتسم فى الشارع.