مشكلة «المعرفيين» مع المجتمع السياسى المصرى تنبع من استهانتهم بأقوال الحكماء، والمعلمين الكبار، على مدار التاريخ. ثبتت أقوال لفيثاغورس لأنها تحولت إلى حقيقة علمية. لكن هذا لا يجعل فيثاغورس نفسه مقدسا، لو قال «اللعب تحت الباط ممكن يزغزغ»، نفضل نقول يا سلام على قوة الملاحظة! وهذا نفسه ينطبق على كل شخص آخر من أرشميدس حتى هوبكنز. المعرفة ليست مرادفا للعلم. تسخير النار لم يصحبه علم يضع الإطار النظرى للتجربة، لكنها معرفة. الخرافة ليست علمًا، لكنها معرفة، وفيها حكمة. كل ما تجرد من التقديس يندرج تحت خانة «المعرفة». كل ما أحاط به التقديس، بدرجات مختلفة، صار عقيدة، وليس معرفة. لكننا عايشين فى مجتمع «نصوصى»، عقائدى، لا ينمِّى فى أفراده التفكير بمعزل عن نص يوضح الخطأ والصواب. نص دين، فإن غاب فبيان من السلطة الحاكمة لمن يثق بها، أو بيان من الحزب أو الشلة لمن يثق بهما. كل هذه البيانات قاطعة التوجه، كلها تدَّعى أنها الحق وأن ما سواها ضلال. أما طائفة المعرفيين فنسبية النظر. المعرفة، وهى نقدية بطبيعتها، تعلّم أصحابها أن لا يروا الأمور بمنطق الأبيض والأسود، بل بمنطق الأنسب. تُعلِّم الناس الشك فى الصواب المطلق أو الشر المطلق للتصرف، ولكن فى نفس الوقت توجيه الطاقة إلى التعامل معهما، والسعى إلى تحقيق أكبر نفع يمكن الوصول إليه فى واقع معين، للنفس قبل الغير. والمحاولة ثم انتظار النتيجة، فالبناء عليها إن نجحت، أو التخلى عنها إن فشلت تماما، أو تصويبها إن وضح موضع الخلل. لا ترى الأمور بمنطق قمم وسفوح، بل بمنطق نقاط على طول الخط. الفروق فى أغلب الأحيان ضيقة جدا. وهذا يعنى أيضا أنهم لا يرون الأطراف الأخرى فى المعادلة بمنطق الأبيض والأسود، بل بدرجات، تتفاوت حسب الزمن، وتعلو وتهبط. مرة لأنها تعلو أو تهبط، ومرة لأن منافسيها يعلون أو يهبطون. الأمور نسبية. هذا مرهق جدا للتيارات السياسية الضعيفة، المعتمدة على الردح والصوت العالى، وعلى الشعارات لا المنطق، وعلى «الموقف» لا النتيجة. لقد وجدت من يواجهها ولا يعطيها شيكات على بياض. الفقرتان السابقتان تمهّدان لفهم موقف كثير من «المعرفيين» السياسى خلال السنوات الأخيرة. فمعظم من فى ذهنى من هؤلاء أيَّدوا «25 يناير» لشعاراتها، العيش والحرية والكرامة الإنسانية. لكنهم لم يقدّسوها. وحين انقلب أهل «25 يناير» على الشعار المرفوع وأتوا برئيس إخوانى، يصنِّف الوطن ويقسمه إلى «مؤمنين وأقل إيمانا» وإلى «مسلمين سنة، وغيرهم»، ثم يصنّف غيرهم إلى «أهل توحيد وغيرهم»، وهكذا. ولا يكتفى بهذا، بل يحتفظ باتصالات مع جماعات إرهابية، ويحتفى بقادتها من قتلة السادات ويقدمهم إلى مقصورة الدولة، ويرسل ميليشياته لفض اعتصام سلمى، ويعطى نفسه حقوقا دستورية تقول «أنا ربكم الأعلى». حين رأوا ذلك فضّوا ارتباطهم بمن جاء بالإخوان، وبمن يمهد الظروف للإخوان. قلتُ سابقا إن أهم ما يميز المعرفيين، كما المعرفة، هو عدم التقديس، والنسبية، لا الإيمان المطلق. طائفة المعرفيين، كونها غير منتمية شعوريا إلى فئة، تبنى مواقفها بمعزل عن «الفئات». لذلك تقترب وتبتعد، حسب التجربة، وحسب مظنة النفع. وليس حسب استحسان مجموعة ما واستلطافها مقابل «النفور» من مجموعة أخرى. سعيها إلى الوصول إلى المعلومة، هنا وهناك، بعيدا عن المفروض، يجعلها تكره السلطوية ومحاولة التحكم فى آراء الناس، والتحرش بهم إن خالفوا «اللباس الفكرى الشرعى». تكره السلطوية ليس من باب نسبتها إلى السلطة، وإنما بنسبتها إلى التسلط. تكره من يحاولون أن يفرضوا عليها رأيا، أو يتوسلوا منها تأييدا مجانيا، فإن حَرَمَتهم إياه انقلبوا و«شرشحوا». حين تسمع كلمة «يا شر.. يا أنجاس» بعد كلمة «إحنا لساننا عفيف»، تكذّب الشطر الأول. معنى هذا أنها تقيم الآخرين بمنطق ما يقولون، ومن هنا فإنها أيضا لا تصدق مَن يقولون إنهم يسعون إلى إسقاط السلطوية، حين يرون أنهم يستبدلون ب«سلطوية الأب» سلطوية الشلة المتحرشة. حزب الكنبة الديمقراطى يرى السياسة مسلسلا تليفزيونيا، ويرى التيارات السياسية مجرد ممثلين وممثلات، ويبنى آراءه على أساس السلوك الدرامى. اللى عايز يكسبهم يحسّن أداءه. بس كده. مش أكتر! فى ضوء هذا. كيف أقدّم -بشكل شخصى- حيثيات اختياراتى السياسية، وتغيراتها الظاهرة؟ وليه خصصت اليسار بالهجوم حاليًّا. هاخلّى دا لمقال قادم أتحدث فيه عن حيثيات تقديرى للأنسب والأقل مناسبة، وللأخطر والأقل خطرا.