اتصلت هاتفياً لأستفسر عن الشحنة القادمة من إنجلترا وإخترت البريد المصري لتصلني الشحنة من خلاله كبادرة أندم عليها في تشجيع القطاع العام ولم أختار إحدى الشركتين العالميتين رغم أنه نفس سعر الشحنة وكانت ستصلني بعد خمسة أيام، وكنت قد طلبتها قبل خمسة وعشرون يوماً على أمل أنها كانت من المفترض أن تصل إلي بعد عشرة أيام من طلبي لها. * ألو.. صباح الخير - صباح النور * ممكن أسأل عن الشحنة الي أنا طلبتها منذ 25 يوماً ولم تصل إلي حتى الأن؟ - ثواني يا فندم. ثم غابت عني خمسة عشر دقيقة وانا على الهاتف استمع لما يدور في المكتب وكم كبير من الكلام في السياسة والزواج والمرور.. في خمسة عشر دقيقة كانت كافية لأعرف ماذا يدور في مصر اليوم.. حتى عادت - يا أستاذ السماعة هتوصلك بعد 20 يوم. * 20 يوم.. ليه؟ - لأننا بعتناها إلى وزارة الإتصالات من يومين. * ليه دي سماعة! - لأ.. دي سماعة بلوتوث ولازم تروح وزارة الإتصالات عشان يفحصوها. * وليه 20 يوم؟ - لأن الموظف بيروح يودي الشغل الجديد ويجيب القديم معاه كل 20 يوم. * يعني كده السماعة هتجيني بعد 45 يوم؟ - أيوه يا فندم.. بس إنت ليه مطلبتهاش تجيلك ب«الدي إتش إل» أسرع طالما حضرتك مسعجل عليها؟ * المفروض بالبريد المصري كانت توصلني بعد 10 أيام مش 45 يوم. - هي فعلاً وصلت مصر بعد عشرة أيام، لكن فضلت في الجمارك 15 يوم ولما جات لنا بعتناها لوزارة الإتصالات.. انما في «الدي اتش ال» كانت هتجيلك بالكتير في خلال إسبوع.. لإن إحنا عندنا لوايح وقوانين بتربطنا ولازم نشتغل من خلالها.. إنما الشركات الخاصة ليها لوايح تانية غيرنا. * أنا أسف يا فندم.. غلطة مش هتتكرر تاني.. شكراً !! هكذا إنهيت المكالمة والغيظ يقتلني مما سمعته، ليس فقط بسبب البيروقراطية المتعفنة التي تسيطر على جميع الأجهزة المصري.. بل لأن أصغر موظف في أي جهاز حكومي يعرف جيداً انه موظف بيروقراطي كما يعلم كيف يتم معالجة هذا الأمر ولكن يظل مجرد علم لا علاقة له بنية التطبيق في المستقبل القريب أو البعيد. فتعتبر الإدارة المصرية إحدى أقدم النظم البيروقراطية في العالم، وهي إدارة مبنية على هيكل إداري شديد التعقيد والمركزية يستند إلى سلوك تنظيمي يتسم في مجمله باللامبالاة وضعف الأداء، الأمر الذي قاد إلى تجذر موروث من عدم الكفاءة وعدم الفاعلية يتبادران إلى الذهن كصورة مدركة حال ذكر الجهاز الإداري للدولة المصرية. ثمة علاقة جدلية بين التنمية السياسية والتنمية الإدارية، أيهما يتبع الآخر، أو أيهما يقود إلى الآخر وجودًا وعدمًا، فأن التنمية السياسية تقود إلى التنمية الإدارية وليس العكس، في حين إن البيروقراطية الفاشلة تعرقل التطور السياسي والتحول الديمقراطي في الدولة، من ثم فإن المؤسسات البيروقراطية في الدول المتخلفة أكثر قوة من المؤسسات السياسية مثل البرلمان والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وكذلك النظام الانتخابي، مما يضر بالعملية الإدارية من جهة، وكذلك بالدور التنموي للدولة على كافة الأصعدة من جهة أخرى. في الحالة المصرية، يصعب الفصل بين البيروقراطي والسياسي، بمعنى أين تنتهي العملية البيروقراطية وأين تبدأ العملية السياسية، نظرًا لما يتمتع به البيروقراطيون من مواقع فريدة في الدولة باعتبارهم جزءًا من التوليفة السياسية وصناعة القرار السياسي وتنفيذ السياسات بل وتقييمها أيضًا في بعض الحالات. حيث إن البيروقراطية المصرية تعمل تحت المظلة السياسية للدولة ومن ثم فإنها تواجه قدرًا محدودًا جدًا من النقد باعتبارها ليست مسؤولة أمام أي جهة بصفة عامة. ونتيجة للتماهي الذي يبلغ حد التطابق في كثير من الأحيان، بين البيروقراطي الإدارى والسياسي (التنفيذي والتشريعي) في الدولة المصرية، فقد خلفت نظم الحكم المتعاقبة على مصر منذ ثورة يوليو 1952 وحتى30 يونيو 2013، نظامًا إداريًا مترهلاً ومعيقًا لأي تنمية حقيقية في مصر، وهو ما يعد نقطة ضعف مركزية يجب على النظام الحاكم في مصر ما بعد 30 يونيو أن يتجاوزه إذا ما أراد أن يتخلص من إرث الماضي وينطلق نحو استحقاقات الحاضر وآفاق المستقبل.