كشفت نتائج جولة الإعادة فى الدوائر ال19 الملغاة عن تحول ملموس فى الخريطة الانتخابية لصالح المستقلين، مُقابل تراجع واضح فى فرص الحزبيين، خاصة أولئك الذين اعتمدوا على المال السياسى. تحولت الجولة إلى لحظة فاصلة أعادت الروح لانتخابات مجلس النواب 2025، بعدما نجح مرشحون خسروا فى الجولة الأولى، وصعد مستقلون إلى الواجهة بوصفهم الأكثر قدرة على التعبير عن الإرادة الشعبية. وأعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات نتيجة جولة الإعادة فى دائرة أطسا بمحافظة الفيوم، إلى جانب نتائج الإعادة فى 19 دائرة كانت قد أُلغيت بقرار من الهيئة ضمن المرحلة الأولى لانتخابات مجلس النواب 2025. وقد تنافس فى هذه الدوائر 455 مرشحًا على 43 مقعدًا، أسفرت النتائج عن فوز 6 مرشحين، بينما تجرى جولة إعادة على 35 مقعدًا بين 70 مرشحًا. يأتى ذلك بالتزامن مع انتهاء عمليات التصويت فى 30 دائرة أُلغيت نتائجها بموجب أحكام صادرة عن المحكمة الإدارية العليا موزعة على 10 محافظات وتشمل 58 مقعدًا داخل 2372 لجنة فرعية فى محافظاتالجيزةوالفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج والوادى الجديد وأسوان والبحيرة والإسكندرية والأقصر. تغير النتائج أرجع أساتذة قانون هذا الانقلاب فى النتائج -إن جاز التعبير- إلى تحول نوعى فى سلوك الناخبين، وارتفاع منسوب الثقة فى العملية الانتخابية عقب إلغاء النتائج السابقة، بما أكد أن الصوت الانتخابى مؤثر، وأن الحسم لا يتم إلا عبر صناديق الاقتراع، هذا التحول شجع قطاعات واسعة عزفت عن المشاركة، إلى العودة والتصويت، مستعيدين ثقتهم فى نزاهة المسار الانتخابى. قال الدكتور عبد الله المغازى، أستاذ القانون الدستورى: إن السبب الجوهرى وراء انقلاب نتائج عدد من الدوائر الانتخابية بين الجولة الأولى وجولة الإعادة يعود بالأساس إلى عودة الثقة، كان قطاع واسع من المواطنين لا يثقون فى جدية ونزاهة العملية الانتخابية، خاصة فى ظل التصورات الشائعة حول التأثير الكبير لما يُعرف بالمال السياسى، الأمر الذى أدى إلى عزوف فئات كثيرة عن المشاركة، سواء كناخبين أو كداعمين لمرشحين بعينهم. وأشار إلى أن صورة المشهد تغيرت بشكل واضح فى جولة الإعادة، بعدما بدأت الثقة تعود مجددًا سواء من خلال أداء الهيئة الوطنية للانتخابات أو من خلال أحكام القضاء الإدارى، التى أكدت أن الصوت الانتخابى مؤثر، وأن القانون يُطبق دون تمييز. وأضاف: إن حديث الرئيس عبد الفتاح السيسى حول ضرورة وجود مرشحين وأعضاء مجلس نواب يتمتعون بإرادة شعبية حقيقية، لعب دورًا مهمًا فى تشجيع المرشحين أصحاب القواعد الشعبية على إعادة حشد أنصارهم، كما حفز المواطنين على النزول مجددًا إلى صناديق الاقتراع، بعدما تأكدوا أن أصواتهم لا تُهدر. وأوضح المغازى أن تلك المتغيرات أدت إلى خروج مرشحين اعتمدوا بشكل أساسى على المال السياسى، أو قاموا بإنفاق أموال طائلة خلال الجولة الأولى، ما شكل عبئًا ماليًا كبيرًا عليهم، وجعلهم غير قادرين على تكرار التجربة، أو حشد الناخبين مرة أخرى. الشفافية فى الانتخابات وأكد أن جولة الإعادة شهدت ارتفاعًا ملحوظًا فى ثقة المرشحين ذوى الخلفيات الشعبية، حيث أعادوا تنظيم صفوفهم وحشدوا أنصارهم الذين ظلوا مؤمنين بمواقفهم وبرامجهم، وهو ما انعكس بشكل مباشر على النتائج. ولفت إلى أنه كلما ارتفعت معدلات الثقة والشفافية فى العملية الانتخابية، شجّعت الناس الحقيقيين والمرشحين الحقيقيين على الوجود فى المشهد، ومنحت الناخبين دافعًا لمنح أصواتهم لمن يستحق. وأوضح المغازى أن خسارة بعض المرشحين الذين تصدروا المشهد فى الجولة الأولى جاءت نتيجة ممارسات خاطئة، تمثلت فى الاعتماد المفرط على المال السياسى، وغياب الشفافية المطلوبة، لكن مع تشديد الرقابة وارتفاع مستوى النزاهة عاد المشهد ليعكس -إلى حد كبير- الوزن الحقيقى للشعبية على الأرض، وليس القوة المالية. وتطرق المغازى إلى دور الأحزاب السياسية، مؤكدًا أنها استفادت من دعم الدولة ورغبتها الواضحة فى وجود حياة حزبية فاعلة على الساحة السياسية، إلا أن هذا الدعم تم استغلاله بشكل غير صحيح فى كثير من الأحيان. وأشار إلى أن المعيار الأهم لدى بعض الأحزاب أصبح ما يمكن أن يقدمه المرشح من تبرعات مالية، مقابل وضع شعار الحزب على لافتاته الانتخابية، وهو ما أدى إلى هيمنة حزبية شكلية وغير حقيقية. ووصف المغازى هذا السلوك بأنه استغلال سيئ للغاية لدعم الدولة لتحقيق مصالح ضيقة على حساب الإرادة الشعبية الحقيقية، معتبرًا أن الرسالة السياسية الأهم فى هذه المرحلة هى أن إحكام العملية السياسية والانتخابية وفقًا للقانون والدستور وبمنتهى النزاهة، هو الضمانة الأساسية لبناء دولة ديمقراطية مستقرة. وأكد المغازى أن الوصول إلى مرحلة ناضجة من العمل السياسى يتطلب أحزابًا ببرامج حقيقية لا شعارات إنشائية مكتوبة على الورق، ومستقلون يمتلكون رؤى واضحة بعيدًا عن منطق «الخدمات» الذى ينبغى أن يقتصر على المجالس المحلية وليس البرلمان. وأوضح أن النائب البرلمانى يجب أن يكون صاحب دور تشريعى ورقابى حقيقى وليس مجرد حامل لبرامج فضفاضة، مع ضرورة وجود معارضة حقيقية وليست مصطنعة، مشيرًا إلى أن تحقيق ذلك يحتاج وقتًا، لكن البداية الحقيقية كانت من الرئيس عبد الفتاح السيسى، ويجب البناء عليها. وأكد المغازى أن مصر لا ترغب فى تكرار التجارب القديمة، أو استنساخ أخطائها تحت أى ذريعة، حتى وإن بدا ذلك الطريق الأسهل. وشدد على أن التحول الديمقراطى الحقيقى يتطلب الصبر، والنزاهة، والالتزام بإرادة الشعب، وفى النهاية لا يصح إلا الصحيح. المال السياسى وأكد الدكتور عمرو هاشم، نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وأستاذ النظم السياسية، أن الفارق الواضح بين نتائج الجولة الأولى وجولة الإعادة فى بعض الدوائر لا يمكن تفسيره إلا بوجود خروقات فى الانتخابات. وأوضح أن ما جرى فى الجولة الأولى انعكس بشكل مباشر على اتجاهات التصويت لاحقًا، بعدما اتضحت ملامح الخلل أمام الرأى العام. وأضاف: إن المال الانتخابى لعب دورًا أساسيًا ومباشرًا فى قلب النتائج، وكان عاملًا حاسمًا فى مسار العملية الانتخابية، إلا أن هذا الأمر أتاح فى الوقت نفسه فرصة حقيقية أمام المرشحين المستقلين للتواجد والمنافسة بقوة، خاصة فى ظل طبيعة النظام الانتخابى القائم على الفردى. وأوضح أن الانتخابات الفردية بطبيعتها تكون خاضعة لسيطرة العائلات الكبرى والقبائل والروابط الأسرية والعصبيات، وهو ما اعتادت الأحزاب التعامل معه حيث تقوم عادة باختيار مرشحين يمتلكون دعمًا عائليًا أو قبليًا واسعًا باعتباره عنصر التفوق الأساسى فى هذا النوع من الانتخابات، غير أنها سقطت هذه المرة، ما أدى إلى خسارة عدد من الأحزاب مقاعد كانت تعتقد أنها مضمونة، فى مقابل نجاح المرشحين المستقلين فى حسم المنافسة والفوز، مستفيدين من حالة الارتباك التى شابت المشهد الانتخابى، ومن تراجع فاعلية الأدوات التقليدية التى كانت تعتمد عليها الأحزاب فى السابق. Untitled-1_copy