تحاول مصر، كالعديد من الدول النامية، أن تطور نظامها الإداري حتي يكون نظاما كفؤا وفعالا ومستجيبا لاحتياجات وطلبات المواطنين - من حيث تقديم السلع والخدمات - وقادرا علي رسم وتنفيذ السياسات العامة بشكل كفء وفعال. تتطلع مصر إلي إصلاح يمكنها من إيجاد قوي عاملة حكومية تتميز بالمهارة والكفاءة والفاعلية. واستمرت جهود التنمية الإدارية تلك واتخذت أسماء مختلفة، ففي عصر الرئيس السادات سميت بالثورة الإدارية، ثم أطلق عليها الرئيس مبارك "الإصلاح الإداري". ونتيجة سياسة الانفتاح التي بدأها الرئيس السادات، تم التركيز علي إصلاح القطاع العام حتي يتحمل مسئولياته الاقتصادية الجديدة. كما بدأ السادات سياسة إعادة هيكلة جهاز الخدمة العامة وتخفيض حجمه، واستمر في هذا الاتجاه الرئيس مبارك حتي اليوم. ووفقا لآخر تحليل فإن كل هذه الجهود وغيرها التي اتخذتها الحكومة المصرية لم تحقق الأهداف المرجوة منها، ويبقي جهاز الخدمة المدنية المصري في أشد الحاجة إلي الإصلاح والتنمية. وبالرغم من كل الجهود السابقة، فإن ترتيب النظام الإداري المصري لايزال السابع والخمسين علي مائة وخمس وأربعين دولة وفقا للتقرير الدولي لرصد الفساد في عام 2007. هذا الوضع يفرض سؤالا منطقيا عن مدي صدق المدخل الذي اعتمدته الحكومة المصرية في جهودها للتنمية الإدارية في أكثر من خمسين عاما مضت. هذا المدخل الذي فضلته الحكومة المصرية يهتم أساسا بقضايا التدريب والإجراءات والقواعد والتشريعات والحوافز والهيكل التنظيمي وشئون الأفراد، وهي قضايا مهمة ولكنها ليست كافية لتحقيق التنمية الإدارية. كل هذه القضايا من الممكن رؤيتها كقضايا إدارية تعني بالشئون الداخلية للمنظمات، ولا تأخذ في اعتبارها العوامل أو المتغيرات الخارجية أو البيئية. ولكن التنمية يجب أن تعني بالمتغيرات الداخلية والخارجية معا. هذه الحالة المصرية تقودنا إلي أطروحة فريد ريجز الكاتب الكبير في علوم الإدارة العامة - المحررا عن عدم التوازن، والتي تستطيع أن تقدم بديلا مفيدا للتنمية الإدارية بمصر. يري فريد ريجز أن هناك ظاهرة عامة بالدول النامية خاصة بوضع المؤسسات البيروقراطية في هذه الدول.. حيث نجد أن المؤسسات البيروقراطية أكثر قوة عن المؤسسات السياسية مثل البرلمان والأحزاب والمجتمع المدني وكذلك النظام الانتخابي مما يضر بالعملية والكفاءة الإدارية وكذلك دور الإدارة في عمليات التنمية. فمن وجهة نظر ريجز أن المؤسسات البيروقراطية قد تهمل دورها الإداري لصالح دورها السياسي بالمجتمع مما يؤثر سلبا علي كفاءة وفاعلية النظام الإداري بالمجتمع ومن ثم في عمليات التنمية. لذلك يري ريجز أن الأسلوب الأفضل لتطوير النظم الإدارية بالدول النامية هو تقوية النظم السياسية لهذه البلدان بحيث تتمكن النظم السياسية من وضع النظم الإدارية في مسارها الصحيح أي القيام باقتراح وتنفيذ السياسة العامة وليس إقرارها أو تقييمها، وبحيث تصبح الإدارة الحكومية أداة لخدمة النظام السياسي وليس العكس. ومن وجهة نظر ريجز، "فإن الطريقة الأكثر فاعلية لتحسين الأداء الإداري في بعض البلدان قد تكون بتعزيز قوة النظام التأسيسي". بمعني آخر فإن الحجة الرئيسية لتقوية النظام التأسيسي هي مسألة إدارية وليست سياسية. (ريجز، 1971). من هذا المنظور سوف نعرض لمحة عامة عن البيروقراطية المصرية ودورها السياسي الذي يوجد حالة عدم توازن في مصر. وسوف نحلل هذه الحالة وأثرها السلبي علي التنمية السياسية والإدارية. وفي الجزء الأخير، سوف يتم تحليل العلاقة بين المؤسسات التأسيسية والتنمية الإدارية ثم يتم تخصيص جزء خاص إلي الدور السياسي للبيروقراطية، وقانون الطوارئ، وسلطة الرئاسة وتأثير ذلك كله علي التنمية الإدارية. نظرة عامة للنظام البيروقراطي المصري طبقا لنظرية ريجز في خصوص عدم التوازن، في المجتمعات النامية وتلك التي تمر بمرحلة انتقالية، تلعب البيروقراطية دورا سياسيا بمعني أنها تشارك في صناعة القرار السياسي، بالإضافة إلي دورها التقليدي في توليف وتنفيذ السياسات. هذا الدور السياسي، من وجهة نظر ريجز، لا يقلل فقط من النمو السياسي، ولكنه يعوق أيضا الأداء الإداري. ولذلك فإنه من المهم أن نركز في تحليل هذا الدور لبيان تأثيره علي الأداء الإداري والتنمية. كذلك فإن قانون الطوارئ لابد وأن يناقش بهدف تقييم تأثيره علي المؤسسات التأسيسية والإدارية. والمسألة الأخيرة التي ستتم مناقشتها هنا هي فقدان الفصل بين السلطات في النظام المصري وتأثيره السلبي علي العملية التأسيسية والنمو الإداري. كل هذه الأمور تؤدي إلي وضع يتسم بعدم التوازن الموجود في مصر والذي له تبعاته علي النمو الإداري. * الدور السياسي للبيروقراطية: يذكر أحد الباحثين البارزين في علوم الإدارة العامة أنه "في مصر من الصعب أن نميز أين تنتهي العملية البيروقراطية وأين تبدأ العملية السياسية". وعلي سبيل المثال، فمن الطبيعي جدا أن نجد موظفين مدنيين يرشحون أنفسهم لعضوية البرلمان ويحتفظون في نفس الوقت بوظائفهم الخدمية المدنية بعد انتخابهم. وهذا دليل ساطع علي ازدواجية الولاء وتضارب المصالح. ومن المثير أن موظفي القطاع المدني يكونون نحو ثلث عضوية المجلس التشريعي والذي يطلق عليه اسم مجلس الشعب. أضف إلي ذلك أنه من المعروف أن غالبية موظفي الحكومة أعضاء في الحزب الوطني الديمقراطي الذي هو حزب الحكومة. وطبقا لهذا السيناريو، تلعب القيادة البيروقراطية دورا مهما في توليف التشريعات والحصول علي الموافقة عليها بواسطة الأغلبية النيابية في البرلمان دون نقد جاد أو معارضة حقيقية. وتعتبر السياسات المقترحة بواسطة البيروقراطية سياسات حكومية وهناك قدر كبير من التعاون بين كبار البيروقراطيين وقيادة الحزب الحاكم، وفي النظام المصري، يتمتع البيروقراطيون بمواقع فريدة باعتبارهم جزءا من التوليفة السياسية وصناعة القرار السياسي وتنفيذ السياسات وفي بعض الأحيان تقييمها أيضا. حيث إن البيروقراطية المصرية تعمل تحت المظلة السياسية للدولة فإنها تواجه قدرا محدودا من النقد أو الحظر وهي ليست مسئولة أمام أي جهة بصفة عامة. هذا الوضع أوجد بيئة باعثة علي سوء النظام البيروقراطي والفساد وفقدان الشفافية في النشاط الحكومي. وفي غياب النقد والمساءلة ونظام محاسبي فعال، فليس هناك من كفاءة أو فاعلية إدارية يمكن أن تتوقع من مثل هذا النظام البيروقراطي. إن بعثة الأممالمتحدة التي قامت بدراسة النظام الإداري المصري وجدت أن هناك تذمرا عاما منتشرا بين صفوف الشعب إزاء الإدارة الحكومية نتيجة سلوك الموظفين المدنيين نحو الجمهور. وإذا وضعنا في الاعتبار ما شرحناه مسبقا "فإن البيروقراطية المصرية لا تبدو أنها في خدمة الشعب ولكنها تحكم المصريين بعقلية تقليدية استبدادية كما كان الوضع تحت النظام الاستعماري البريطاني" - (مسودة تقرير بعثة الأممالمتحدة، 1989). وفي عام 2006 جاء ترتيب مصر الثاني والسبعون من مائة وثلاث وستون دولة طبقا لتقرير للهيئة الدولية للشفافية والكشف عن الفساد وفي نفس العام جاء ترتيب مصر في ترتيب الفساد السابع والخمسين من أصل مئة وخمسة وأربعون دولة طبقا لتقرير لمنظمة Worled Audit.