الرهانات الانتخابية لموظفى مصر محدودة، ولا دخل للاعتبارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بها، وحدها ثقافة المؤسسة البيروقراطية تحدد خياراتهم، وتتلقى الإشارات المحدودة التى تصدر عن مرشحى الرئاسة الذين يراهنون على هذه الكتلة البشرية التى تتجاوز 6 ملايين موظف، والتى تحدث البعض فيما أضافته من قوة لترشح بعض رموز النظام السابق الذين بنوا أهليتهم الرئاسية على توكيلات موظفى الدولة؛ فضلاً عن توكيلات شريحة من العاملين فى القطاع الخاص أرغم أصحاب الأعمال موظفيهم فيها على عمل التوكيلات لمرشحين بعينهم بقصد المجاملة. وعند متابعة الدراسات التى تتعرض لحضور البيروقراطية فى المجال العام نجد أن قديمها الذى يركز على الهرمية الإدارية والانضباط والمركزية، وحديثها الذى يركز على قيم التنميط والبرمجة وتحليل النشاط ونظم الحوافز ومستوى رفاهية العامل؛ يحملان لهذه الشريحة الاجتماعية ثقافة الاستقرار، وهى تؤكد عليها بقدر ما تصفها بها. ويكشف تاريخ البيروقراطية فى مصر عن ولاء هذه الشريحة للنظام النزّاع للاستقرار، بدءاً من البيروقراطية الفرعونية التى ارتبطت بتنظيم مياه الرى وحتى بيروقراطية أتباع محمد على التى ارتبط ولاؤها بمنحها حق الانتفاع بمساحات واسعة من الأراضى. وتطور الأمر بعد معاهدة 1936 حيث أخذت حكومة الوفد خطاً وطنياً أنتج جيشاً بيروقراطياً. ولم تلبث البيروقراطية أن تغولت بعد 1952 بسبب غياب التكوينات الاجتماعية الأخرى التى قضى عليها نظام الرئيس عبدالناصر، فقد كان عدد الموظفين عند قيام الثورة حوالى 350 ألفاً، ثم أصبحوا 770 ألفاً فى عام 1963، ووصلوا إلى 6 ملايين فى عام 2004. والمؤكد أن هذه الشريحة تتجاوز الآن 7 ملايين موظف. ولم يتفكك البناء الاجتماعى لهذه الطبقة فى عهد النظام الذى أسقطته ثورة 25 يناير لأنه تأقلم واضطر لأخذ حصته من كعكة الفساد على نحو يعوض فقر المردود الاقتصادى للوظيفة العامة. ولعل أحدهم يرى كيف أن عقلية الموظفين كانت من أبرز العقليات التى رفضت الحضور السياسى للميدان، وعززت من الدعاية المناهضة له؛ ما تمثل فى تعطيل «عجلة الإنتاج» و«هما مالهمش شغلانة». وهى نفسها العقلية التى خاطبها من قبل الفريق أحمد شفيق بتأكيده على أنه رجل الدولة، ثم اللواء عمر سليمان بحمله لواء الأمن والاستقرار، ثم السيد عمرو موسى وجمعه بين الاستقرار والبيروقراطية وخيار رجل الدولة؛ وهو ما يفسر ارتفاع شعبية كل من سليمان وموسى أيضاً بين خيارات المنتمين للجهاز البيروقراطى فى استطلاعات الرأى المختلفة، إن تلك التى أجراها مجلس الوزراء أو مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية وغيرهما. ويتزامن مع هذا المناخ الثقافى ضعف مردود الاختراق الثقافى الذى يمثله الإسلاميون بتياراتهم، التى اختارت إما الانعزال والاشتغال بنمط اقتصادى هامشى أو التوجه للقطاع الخاص واستثمار فرصه، ليبقى جهاز الدولة يضم بالدرجة الأولى أولئك الذين لديهم استعداد للمشاركة فى إدارة الفساد، بينما تكفلت أجهزة الأمن السياسى بتحجيم وتقزيم أولئك الموظفين ذوى الرأى المختلف. ومما يؤكد هذا التوجه الثقافى أن هذه الشريحة البيروقراطية أقل الشرائح الاجتماعية تعرضاً للإعلام الاجتماعى الذى يمثل المصدر المركزى لثقافة التغيير والمساواة، ولا يزالون يمثلون المستهلك الرئيس للصحافة التقليدية، وبخاصة المدرسة المحافظة منها؛ ليس لغرض الثقافة وحده بقدر ما هو بغرض استهلاك الثراء الإعلانى فى هذا القطاع من المنتج الإعلامى. وبرغم أن أطروحات مرشحى الرئاسة لا تزال تنظر إلى الاستثمارات باعتبارها ملاذ مصر وقاطرتها نحو التقدم؛ إلا أن غياب المكافئ الموضوعى لمردود اقتصاديات الفساد يحد من فرص حضورهم لدى الأغلبية الكاسحة من البيروقراطيين. فمن ناحية، نجد أن مفهوم الحد الأدنى للأجور لا يتعلق بالبيروقراطية بقدر ما يتعلق بمواجهة استغلال العمالة المصرية. كما أن تيار رفض الفساد لدى المرشحين القريبين من الثورة والمحسوبين عليها يقلق البيروقراطية المصرية التى لا ترغب فى الفساد؛ وإنما اضطرت إليه بسبب ضعف المردود الاقتصادى للوظيفة العامة المهمة بسبب استقرار حياة ما بعد التقاعد فيها. وفى النهاية، لك أن تتخيل كيف يمكن لموظف لديه ابنان فى الثانوية العامة والإعدادية أن يحيا بدخل يبلغ 1500 جنيه بعد أن كان نصيبه من إدارة الفساد يبلغ فى المتوسط ما بين أربعة إلى خمسة آلاف جنيه!