الفيديو الذى شاع عن الخناقة مع حسام عيسى فى جنازة أحمد فؤاد نجم يستحق التوقف عنده. حسام عيسى كان الشخصية المرشحة من قبل «الثوار» لتولى رئاسة حكومة فى إطار خطة ل«نقل السلطة» خلال المرحلة الانتقالية. وقد وصل الحال إلى الشقاق معه، والسعى إلى نبذه، متمثلا فى عدم الرغبة فى وجوده فى الجنازة. هل فى هذا إشارة إلى من يعقلون؟! المرحوم أحمد فؤاد نجم نفسه كان مؤيدا لعبد الفتاح السيسى كما هو معروف. هذا يعنى أنه اتخذ موقفا سياسيا «مرفوضا» من قبل نفس الشباب. المفارقة -بالتالى- أنه فى جنازة شخصية سياسية اتخذت موقفا «مرفوضا» من قبل هؤلاء الشباب، تجرى المزايدة على شخص آخر اتخذ موقفا سياسيا «مرفوضا» من قبلهم. وهذا يعنى من الناحية النظرية أنهم لو طالوا لقالوا للمتوفى نفسه «إنت إيه اللى جايبك هنا؟». لم يكن هذا افتقارا إلى المهارات السياسية فقط، بل أسوأ من ذلك، لقد عبر أوضح تعبير عن فقدان مهارات -وليس أخلاق- إنسانية. مهارات حُسن التعامل مع الناس حتى المختلفين. قديما فعل اليسار الراديكالى نفس الخطأ فى اتفاقية السلام. وعزل أصحاب الرأى الأنسب سياسيا بتأييد عملية السلام. بنفس الغلظة، وبنفس الفجاجة. ثم مرت السنوات واكتشف الناس، بل وكثير من اليساريين، أن هؤلاء لم يكن لهم من مصلحة شخصية فى تأييدهم للعملية. إنهم أيدوها بدافع سياسى بحت، باجتهاد سياسى بحت، بل إنهم كانوا أصحاب الرأى الأصوب. والمقصود أنه حتى لو اختلفتَ معهم فليس من المهارة الإنسانية أن تتهمهم بالخيانة كما فعل يساريون مع أكثر شعراء جيله موهبة، الفنان الرائع الموهوب صلاح عبد الصبور. تقول الحكاية إنه كان فى حفل وكال له أحدهم الاتهامات فأُصيب بأزمة قلبية. لا أعرف مدى صحة الحكاية. ولكن بما أنها حكاية متداولة فهذا ما استقر فى وعى الناس. بل إن اليسار الجيفارى (بتاع جيفارا) نفسه صار الآن عماد المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدنى، الممولة أوروبيًّا وأمريكيًّا، وهو الذى بنى خطابه الوطنى سابقا على القطيعة مع الغرب الإمبريالى، ثم على رفض العولمة. هى العولمة إيه غير شوية قنوات اتصال، وشوية منظمات سياسية، زى منظمات المجتمع المدنى المتخطية للدول؟ وهنا طبعا أستخدم خطاب اليسار نفسه، لا ما أعتقد فيه أنا. أنا أثمّن رسالة المنظمات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدنى بوجه عام. سلوك القائمين عليها قضية منفصلة. ما معنى هذا؟ معناه أن اليسار يناقض نفسه، و«يخوّن مبادئه»، ويظهر فى صورة المخادع. والسخرية أن قواعده أكثر الناس اتهاما للآخرين بالانقلاب والخيانة. ومعناه أن الافتقار إلى مهارة السماحة عند الاختلاف سلاح ذو حدين. قد يصيب نصل منه أناسا كصلاح عبد الصبور. لكنه على المدى الطويل يصيب اليسار نفسه فى مقتل، ويفقده ثقة الناس به. لو السياسة بالردح كان اليسار ساد العالم، ولو السياسة باحتكار الآخرة، كان رجال الدين سادوا العالم. لكن الحمد لمن يستحق الحمد، السياسة لا بهذا ولا بذاك. السياسة بالمهارات. بحُسن قراءة الخريطة. ثم استخدام الوسائل السلمية كلها، ما دامت قانونية، للوصول إلى الهدف. ومعناه أن هذا تيار أبوى، يخلق بين صفوفه سلطة أبوية، لا تسمح بالاختلاف ولا التميز.. أليس هذا غريبا على تيار «ثورى»؟ ما معنى «الثورة» إذن؟ التيار الذى يجرّم الوسائل السلمية يملك نفس عقلية التيار الذى يحرّم. يضيّق على نفسه. هذا شِقّ من الموضوع. لكنه أيضا يترك نفسه بلا اختيارات إلا العنف، الجسدى واللفظى. وبطول التنظير لهما، والتغاضى عن سلوك مَن يلجؤون إليهما، تصير هذه المهارة الوحيدة لديه. يريد أن يجرّ الناس جرًّا إليها. وبما أنهم لا يمارسون «عنفا» نضاليًّا حقيقيا، بيغنّوا له بس، فإن بطولاتهم صارت تقتصر على ضرب السياسى الفلانى على قفاه فى التحرير، أو سب فلان، أو «الطرقعة» لفلان. مين اللى بيعمل كده؟ البلطجية «اللى بيعلّموا» على بعض. حين يصل تيار سياسى بسلوك قواعده إلى حد التشابه مع سلوك البلطجية، فهذه مأساة حقيقية. السؤال: هل يعتقد تيار سياسى عاقل أن الناس تسلم زمام السلطة إلى «بلطجية»؟ بالتأكيد لا. إلا لو كان «لا يسعى إلى السلطة».. ممممممممم. دا محتاج نتكلم عليه بكرة.