ردًّا على قرار مصر بتخفيض التمثيل الدبلوماسى مع تركيا، استدعت الخارجية التركية القائم بالأعمال المصرى وأبلغته بأن السفير المصرى شخص غير مرغوب فيه، وأنها قررت تخفيض التمثيل الدبلوماسى مع مصر إلى مستوى القائم بالأعمال. ما فعلته مصر يتوافق وقواعد التمثيل الدبلوماسى، فقد ردت على التدخل التركى السافر فى الشؤون المصرية الداخلية بشكل متدرج، بدأت باستدعاء السفير التركى فى القاهرة وأبلغته استياء القاهرة من تصريحات رئيس الوزراء التركى أردوغان وتهجمه على ثورة الشعب المصرى على حكم الإخوان، وعبّرت أكثر من مرة عن انزعاجها الشديد من استمرار التصريحات العدائية من جانب رئيس الوزراء التركى، ونشرت وسائل الإعلام المصرية تفاصيل دقيقة لاجتماعات التنظيم الدولى للجماعة فى تركيا والقرارات التى اتخذها بدعم المظاهرات والاحتجاجات وأعمال العنف فى مصر. ثم جاءت الخطوة المصرية الأبرز فى هذا السياق، وهى سحب السفير المصرى من أنقرة، فالقرار يعنى فى الأعراف الدبلوماسية حالة من الاستياء الشديد ورسالة غضب من العاصمة التى قررت سحب سفيرها، وهى فى الوقت ذاته رسالة تحذير مؤداها أن عدم التجاوب من قِبل الدولة الأخرى سوف يدفع بالأولى إلى اتخاذ قرارات أكثر حدة منها طرد سفير هذه الدولة وتخفيض التمثيل الدبلوماسى، وهى حالة تلجأ إليها الدول فى حال تمادى دولة أخرى فى مواقفها العدائية وعدم استقبال الرسائل السابقة المتمثلة فى الاحتجاج لدى سفير هذه الدولة أو إقدام الدولة المحتجة بسحب سفيرها لدى الدولة الأخرى. طرد السفير وتخفيض التمثيل الدبلوماسى هما الخطوة قبل الأخيرة فى الوصول إلى قمة التوتر بين بلدين، فالخطوة الاحتجاجية التالية هى قطع العلاقات الدبلوماسية، وهى خطوة نادرًا ما تلجأ إليها الدول، فحتى الدول المتحاربة عادة ما تحتفظ بتمثيل دبلوماسى على أى مستوى لضمان تبادل الرسائل حتى فى فترات الحروب، وعليه لا تلجأ الدول إلى قطع العلاقات الدبلوماسية إلا فى حال وصول العلاقات إلى مرحلة من التدهور الشديد والعداء المركَّب الذى يطول كل مناحى علاقات الطرفين المعنيين. السؤال هنا: لماذا قررت مصر طرد السفير التركى وتخفيض التمثيل الدبلوماسى؟ وهل يتوقع أن تتخذ مصر قراراها بقطع العلاقات الدبلوماسية مع تركيا؟ تاريخيا لم تكن العلاقات المصرية التركية جيدة، كانت تتراوح باستمرار بين التوتر والفتور، وذلك بسبب انفصال تركيا عن مصالح العالمين العربى والإسلامى وتوجهها نحو الغرب، نحو أوروبا والسعى الحثيث لدخول الاتحاد الأوروبى. فتركيا هى أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل وتقيم معها علاقات دبلوماسية، كانت عضوا نشطا فى حلف بغداد الذى شكلته الولاياتالمتحدة لضرب القومية العربية، كما فتحت تركيا أجواءها وأراضيها أمام الطيران والقوات الإسرائيلية للتدريب بجوار سوريا والعراق، ومن الأجواء التركية تجسست إسرائيل على سوريا والعراق وأيضا إيران. فى المقابل كانت اليونان على سبيل المثال، وهى العدو التاريخى لتركيا، ترفض الاعتراف بإسرائيل ولا تقيم معها علاقات دبلوماسية، من أكثر الداعمين للحق العربى ومن ثم توطدت علاقاتها مع مصر وباقى العالم العربى. وعندما تراجع التوتر فى العلاقات التركية العربية إجمالا والمصرية على وجه الخصوص حل محله الفتور، فقد واصلت تركيا دورها كقوة متقدمة للغرب فى المنطقة، وعندما أيقنت تركيا أنها لن تدخل الاتحاد الأوروبى، عادت لتوجه أنظارها صوب الشرق، فتذكرت أنها دولة إسلامية، ومن ثم أرادت الاستقواء بالعالم العربى فى التغلب على الرفض الأوروبى لضم تركيا، وهنا بدأت تركيا تتقرب إلى العالم العربى وتغالى فى تبنى القضايا العربية والإسلامية، وهو ما تضاعف بعد تولى حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان (الفرع التركى لجماعة الإخوان) السلطة هناك، فبدأ الرجل يغالى فى تبنى القضايا الإسلامية ونجح فى جذب الأموال العربية والإسلامية وتمكن من تطوير الاقتصاد التركى بشكل كبير، ثم جاء وصول الجماعة إلى السلطة فى مصر فكشف أردوغان عن انتمائه الكامل للجماعة، وبدأ يتصرف كأفراد الجماعة لمصلحة التنظيم. كبر حلم الخلافة لدى أردوغان إلى أن أطاح الشعب المصرى بحكم المرشد والجماعة، فضاع حلم الخلافة وفقد أردوغان عقله وأخذ يتصرف كزعيم للتنظيم الدولى للجماعة ويتصرف تصرفات أفراد الجماعة التى رأيناها فى مصر، بلا عقل ولا منطق، بل أخذ يتصرف تصرفات صبيانية، كبعض الصبية من لاعبى الكرة، فيرفع إشارة رابعة فى مؤتمر صحفى، وتصرفات على هذا النحو ترجح تصاعد التوتر فى العلاقات المصرية التركية. وإذا كان مؤكدًا أن الحكومة المصرية تلتزم بضبط النفس والصبر الشديد، فالمؤكد أيضا أن استمرار أردوغان فى التصرف كزعيم للتنظيم الدولى، وكصبية الملاعب سوف يدفع مصر دفعًا إلى السير نحو الخطوة الأخيرة فى علاقاتها بتركيا.