كاتب اسكتلندى يقدم الوصفة السحرية لنجاة البشرية من ويلات الحروب ويلكينسون يرى أن الدين والقوة العسكرية المفرطة لا يكفيان لبناء نظم ديمقراطية ليبرالية لن يجد المرء مفرا من الشعور بالاكتئاب بمجرد الانتهاء من قراءة كتاب «العلاقات الدولية.. مقدمة قصيرة جدا»، لبول ويلكينسون، غير أن مغامرة اكتشاف زاوية أكثر عمقا ووعيا تمكننا من فهم طبيعة ومحددات العلاقات الدولية والسياسات الخارجية للدول فى زمننا الحاضر، قد تحتمل قليلا من الألم النفسى. كل المسلمات التى ظل المرء متمسكا بها، أو إن تحرينا الدقة بقى على قناعة لا أساس لها بصحتها بشأن منطلقات الأحداث الكبرى، والصراعات والاضطرابات السياسية المؤثرة حول العالم، سيدرك فجأة بينما يطالع صفحات الكتاب القليلة، أنها تنهار واحدة تلو الأخرى، قبل أن يفهم أنه وغيره من ملايين البشر حول العالم، مغيبون ولا يعرفون من حقائق الأمور غير قمة جبل الجليد فقط، أو ما تريد الأنظمة والميديا المرتبطة بالحكم والسلطة، أن تصدره لهم، وليس الواقع كما هو دونما أى رتوش أو تحريفات. الكتاب الصادر فى طبعته العربية حديثا عن دار «كلمات عربية»، بترجمة للبنى عماد تركى، ومراجعة هبة عبد العزيز غانم، يتطرق فى الأساس إلى مجموعة متنوعة من القضايا المحورية اللازمة لفهم العلاقات الدولية الحديثة، بدءا من السياسة الخارجية، ومرورا بالقضايا المتعلقة بالسلاح والإرهاب، ووصولا إلى قضايا البيئة والفقر فى العالم. كما يبحث المؤلف دور القوى العظمى، وتأثير المنظمات الكبرى كالأممالمتحدة والاتحاد الأوروبى، وتأثير الحركات العريقة والدينية فى جميع أنحاء العالم، بهدف توضيح كيفية تشكيل تلك العوامل لطريقة تفاعل الدول والحكومات فى هذا الشأن. لكن المؤلف، وهو أستاذ للعلاقات الدولية، ورئيس المجلس الاستشارى لمركز دراسة الإرهاب والعنف السياسى بجامعة سانت أندروز الأسكتلندية، يقول بوضوح يصل إلى حد الصدمة، إن النظام العالمى الجديد، الذى أمل الرئيس الأمريكى الرئيس جورج بوش الأب، أن يدفع به لدى نهاية الحرب العالمية الباردة، يبدو الآن كفكرة مفرطة فى التفاؤل مستحيلة التحقيق، لافتا إلى أن ذلك يعنى بلا مواربة، أن الدروس التى يجب أن يستخلصها المرء من التاريخ الحديث للعلاقات الدولية، هو أهمية الدبلوماسية المحنكة الصبورة، التى تقيم أواصر التعاون، ليس مع الدول فحسب، وإنما مع المنظمات الحكومية الدولية والمنظمات من غير الدول أيضا، وذلك لأن عالم اليوم أصبح عائما على بحر من الخلافات والمواجهات الدامية. ويلكينسون ينحاز كذلك إلى أنه فى عالم تمتلك الدول فيه أسلحة دمار شامل، لا يمكن قياس الحنكة السياسية الدولية، والقيادة الدولية فقط من منطلق استعمال القوى العسكرية، أو التهديد باستعمالها، كأداة منتظمة للسياسة الخارجية. حيث إن الاعتماد المفرط على الحلول الحربية، من شأنه أن يأتى بنتائج عكسية وخطيرة فى بعض الأحيان. وهنا يمكن ملاحظة عجز الولاياتالمتحدةالأمريكية، بعد تجرية غزو العراق الرهيبة واحتلاله، وانطلاقا من درس هجمات الحادى عشر من سبتمبر، مثلا عن التحكم فى المحيط السياسى والاستراتيجى برمته استنادا لانكشاف زيف مبرر الحرب على بغداد، والتثبت من عدم وجود أسلحة دمار شامل لدى صدام حسين، ناهيك عن فشل واشنطن أيضا فى تأمين أهدافها المؤثرة والحيوية، حتى أمام أعمال تمرد صغيرة نسبيا، كما كان الحال معها فى المستنقع الفيتنامى. ما يعنى ببساطة أن الدول العظمى باتت مجبرة على «إدارة» التوترات والخلافات ومنع وقوع النزاعات، فليس من مصلحة الأمن القومى، أن تجر الدولة إلى «حروب استباقية» مزعومة ضد جميع نظم الحكم غير الديمقراطية الوحشية فى أرجاء الأرض. وعموما ورغم اتجاه العلاقات الدولية، واستنادا لوجود منظمات دولية كالأممالمتحدة ومجلس الأمن، نحو التقويض التدريجى لمبدأ السيادة المطلقة للدول، فثمة ضغوط وعقبات لا يستهان بها أمام التدخل الإنسانى القسرى، فإما خافت الدول الكبرى من دفع فاتورة باهظة لو التزمت تجاه قضية إنسانية ما، وإما أن نظم الحكم بالدول النامية تخشى أن يصير التدخل غطاء لإقحام القوى الكبرى نفسها فى شؤون تلك النظم. المثير أن المنظمات الدولية أو الإقليمية التى يفترض أن تلعب دور الحكم العادل بين الدول وفق منطق العلاقات الدولية، لا تتمكن فى أوقات عدة من التأثير، فليس من الإنصاف مثلا أن يحكم على الأممالمتحدة باعتبارها فاعلا قائما بذاته فى النظام العالمى. هى فى الأصل منتدى حكومى دولى، تقيده على الدوام خلافات ونزاعات أساسية بين الأقطار داخل كل من مجلس الأمن والجمعية العامة. كما أن تسمية الاتحاد الأوروبى تنطوى على تضليل نوعا ما، وإلا كيف نفسر صدمة القارة العجوز من العراقيل المتصاعدة من قبل بعض الشعوب الأوروبية، لصد أى اتجاه نحو تحقيق التكامل الاقتصادى والسياسى. الأمر الذى تجلى فى رفض الفرنسيين ومن بعدهم الهولنديين مسودة دستور الاتحاد الأوروبى، ناهيك عن إعلان ست دول أخرى هى بريطانيا وأيرلندا والدنمارك والسويد وجمهورية التشيك وبولندا، أنها لا تنوى إجراء استفتاء على المسودة. الأخطر أن ويلكينسون، يقطع بحسم أن النظام الدولى أبعد ما يكون عن النظام الديمقراطى، وأن آليات الديمقراطية والعدل والحرية، لا تمثل فى أحيان عدة، محركا لذلك النظام. بينما تزخر ثنايا الكتاب بتدليلات عدة فى ذلك الشأن، من بينها مثلا أنه يخطئ خطأ فادحا من يفترض أن ملايين الناس فى مكان ما يحددون هويتهم فى المقام الأول حسب الدولة التى يقيمون فيها، وإنما من خلال دينهم، أو مزيج من دينهم وعرقهم. بل ويذهب المؤلف إلى أنه فى عصر الدولة المدنية، والذى يسلم كثيرون فيه فى البلدان الغربية، على وجه الخصوص، بضرورة الفصل الواضح بين الدين والدولة، نجد أن الأول له التأثير الأقوى، ليس على القيم المجتمعية والأخلاقية وقواعد الحياة الأسرية وممارساتها فحسب، وإنما أيضا وبشكل أكبر على طبيعة الدولة ذاتها، وعلى قوانينها ومؤسساتها وعمليات الحكم فيها. مثلا، المسيحية مثلت المؤثر الأبرز فى تشكيل الدولة القومية الأوروبية والنظام الدولى وقانونه وأخلاقياته بصفة عامة. كما ألهمت الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، الأنشطة الإنسانية لدى كل من الحاكم والمحكومين، وكذا فى الأنشطة الموجهة للبقاع العالمية الفقيرة، فظهرت حركة إلغاء الرق ومؤسسات كالصليب الأحمر، وما شابه. فى المقابل كانت العقائد دافعا لأشد الحروب وربما الحملات الإرهابية الضارية. كما لعبت مؤسسات وقامات دينية بأثر فادح فى السياسة، كان من بينها دور الكنيسة الكاثوليكية كقلب مقاومة الشيوعية، وخصوصا فى بولندا. هنا يقف التاريخ ليسجل أن البابا الراحل يوحنا بولس الثانى، الذى ولد فى ذلك البلد الذى حسب طويلا على الكتلة المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفيتى السابق، وكان أول من انتخب فى موقع رأس الكنيسة الكاثوليكية من غير الإيطاليين منذ عام 1522، يرجع إليه الفضل فى مؤازرة التعجيل بانهيار الشيوعية فى أوروبا الشرقية. فى الشرق الإسلامى، وتحديدا فى إيران بلد الملالى وآيات الله، كان الخمينى على موعد فى العام 1979، للإطاحة بالشاه، وتغيير نظامه بمؤسسة حكم ونمط اجتماعى أصولى إسلامى متشدد، تغيرت معهما موازين القوى فى الخليج العربى، ومنطقة الشرق الأوسط قاطبة. غير أن المؤلف أبى أن يترك قارئه غارقا فى كآبة واكتئاب غير متناهيين، ومن ثم منحه فى خاتمة الكتاب مجموعة من المبادئ الرئيسية التى ينبغى أن يسترشد بها صانعو السياسات والبرلمانات والشعوب فى الوقت الحالى فى صنع السياسة الخارجية فى دولة ديمقراطية. وأهمها الالتزام بالسلم والأمن الدوليين، حتى لا نعجل بنهاية البشرية على ظهر الكوكب، إضافة إلى المناصرة الحقيقية للمصالح الدولية، والانحياز التام لخدمة صالح البشرية، وليس مجرد مصلحة قومية أو مصلحة قومية أو طائفية ضيقة. بيد أن الجميع عليه الحذر، من أن الوصول إلى ديمقراطية ليبرالية ليس نهاية المطاف، إذ أن ذلك لا يعنى بالتبعية احترام القيم الليبرالية وإبقاء القوى القمعية فى أروقة النظم تحت قيود فاعلة تصحبها إجراءات تدقيقية ومساءلة موثوق بها تماما. ويتجلى هنا القول المأثور للورد أكتون، الذى جاء فيه أن «كل سلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة».