اهتم الفنان الكبير بالمياه حيث كانت أمطاره لا تتوقف.. من خرطوم المطافئ إلى خرطوم النيل حجازى كان ينحاز إلى السمكة فى أغلب رسومه للأطفال كأنه يحتفظ بها فى مكانٍ ما بداخله علاقة السمكة بالزمن فى رسوم حجازى تعد رمزًا للمستقبل.. فهى الحلم والأمنية رسوم حجازى بها كثير من العمق والقوة والسعادة.. وهى دائما فى حركة مستمرة لم يشأ فنان الكاريكاتير حجازى أن يرحل عن عالمنا إلا بعد أن يرى الثورة التى بَشَّر بها فى رسوماته على مدى السنوات الماضية تتحقق أمام عينيه.. أحمد إبراهيم حجازى المولود عام 1936 رحل عنا فى 21 أكتوبر 2011، وقد مثَّل النموذج الأمثل للفنان الحقيقى، حيث ترك مفاتيح شقته المستأجَرة بالمنيل للمالك وعاد إلى طنطا يرسم للأطفال فى صمت باعتبار أنهم الجيل القادم الذى سيُحدث التغيير. المخاطرة الكبيرة هى الاقتراب من عمل فنان يبدو بسيطًا وسلسًا، لكنك فور أن تَبلغه تجده عميقا ويحمل خصوصية وتفردًا يجعله مركبًا وصعبًا، وعليك أن تفرد هذا الجمال للتحليل والقراءة. أشعر به يكشف لى سرًّا كلما نظرتُ إلى عمل من أعماله، فمع رسوم حجازى نستمد الكثير من العمق والقوة والسعادة، فهى فى حركة مستمرة تخترق حدود الورقة وبأبسط الأشكال وأكثرها تواضعًا، فكم تحمل تلك الرسوم مشاعر بداخلها. كيف يرسم حجازى عالمًا صغيرًا لكن باتساع عجيب، كأنه يصنع من المربع محيطًا؟ هنا تأتى عظمة فكرة السمكة التى تشغلنا فى دوائر بسيطة وتبهرنا وهى تسبح فى اتساع لا تعلمه، إنها مشغولة فقط باللعب والسباحة والجمال. وأمطار حجازى لا ترغب فى التوقف كأن المياه تحيط به، فهو السمكة والعالم المحيط بها فى آنٍ واحد. حجازى كان ينحاز إلى السمكة فى أغلب رسومه للأطفال كأنه يحتفظ بها فى مكانٍ ما بداخله وعندما يرسم يأخذ هذا العشق معه ويجلب فى رسوماته الكثير منه. المعروف أنه فى حالات الصيد لا تكتفى بسمكة واحدة لكن العديد والعديد وهنا تكمن المتعة حتى تمتلئ الشباك والسلال هكذا كانت الأفكار بالنسبة إليه، لم يكتفِ برسم السمكة مرة ولا مرتين بل العديد والعديد كأنه يصطاد من خلالها الأفكار. كانت السمكة صنارته وطُعمه. حجازى الذى عندما نتتبع سيرته ونعلم عدم احتفاظه بأعماله فهو لا يحتفظ بها. هل رأيتَ صيادًا يحتفظ بأسماكه؟ إن المياه فقط هى من تسكنه. حجازى يعشق كل ما لا يمكن الاحتفاظ به، فهو الفن فى جوهره. كل عمل ينتهى بمجرد الانتهاء منه لا يشغله أبدًا بعد ذلك وهكذا هى طازجة الأسماك، فالسمكة لا تُصاد مرتين. عندما ننظر إلى علاقة السمكة بالزمن فى رسومه نجدها رمزا للمستقبل فهى الحلم والأمنية، عندما تُخرِج الصنارة عروس البحر، وعندما يصطاد الديك الدجاجة بصنارته، عندما يقارن بين الماضى والحاضر فى جيلين فى رسمة الأب والابن عندما يتشاركان الصيد، فيصيد الأب بصنارته سمكة واحدة لكن الابن وهو رمز للمستقبل والجيل الجديد يبتكر صنارة متعددة الخطافات فيفوز بالعديد من الأحلام. يهتم حجازى باللحظة الحاضرة عندما يطرح برسومه أفكارا حول التسلية وهذا يظهر جليًّا فى رسمة المهرج الذى يصطاد وهو يجلس على مقدمة سيارة وتلك السمكة الكبيرة جدا التى فى السلة فوق السيارة توضح زمن الصيد بأنه قصير، فلم يتم سوى اصطياد تلك السمكة الكبيرة والأخرى التى تخرج من الماء. وهناك ما تحمل فى طياتها أشكال الزمن المختلفة من ماضٍ وحاضر ومستقبل فى مكان واحد مثل رسمة كومة السمك المأكول والسمكة التى تؤكل فى نفس اللحظة. وهناك رسوم تساعد فى الشعور بامتداد الزمن مثل الرسمة التى يصاد فيها السمك ثم يتم إطعام أبو قردان ووجود أسماك أخرى بفمه تؤكد امتداد الزمن وغيرها. وعندما ننظر إلى اهتمام حجازى برسم النجوم وقلة اهتمامه بالقمر فى رسومه نجد أنه ربما انشغل بها لكثرتها مثل الأسماك التى عشقها، وهى تمثل الأحلام وإن كانت تظهر ثابتة فى مواقعها إلا أن لمعانها يبهجك ويحركك، فبريقها هو حركتها الخاطفة السريعة المبهرة مثلها مثل الأسماك فى المياه مثل الأمطار. لقد كان حجازى منحازًا إلى السمكة ولكن ليس لشكلها وما يميز تكوينها لكنه كان يرسم ما تحب أن تصنع السمكة هنا فى لوحته. كان يفسر الحياة وعلاقة الإنسان بنفسه والعالم والآخرين عن طريق علاقته بالأسماك.. أنا لا أفسر كيف كان يرى حجازى السمكة، لكنى أحاول أن أشعر ببعض الحب الذى كان يخفيه حجازى للسمكة.. قد يرى البعض أنه لا دخل للحب هنا، لكنى لا أجد الفنان عظيمًا إلا بدافع واحد وهو الحب الذى ربما يُحرك دوافع أخرى أو يتحرك من خلالها حتى لو كان هذا الحب الناتج من لحظة الفعل وصنع العمل والتحليق من حوله. فهل راهن حجازى فى رسومه على السمكة؟ عندما أتأمل أسماك حجازى يتملكنى شعور جميل وأهمس لنفسى: ها أنا ذا أرى السمكة التى أحبَّها حجازى واختارها لتسكن عالمه. لقد كانت هناك لغة إشارية فى غاية من الرهافة فى رسومه، غالبًا يقول على لسان السمكة: هنا سمكة تفعل كذا.. هنا سمكة ماضيها كان كذا.. هذه السمكة حيث إنها ستؤول إلى كذا.. هذا هو اتجاه تلك السمكات.. وهكذا.. الجمال أنها لغة إشارية وليست إخبارية لأنها مكتظة بالخيال غير المسبوق والبساطة والبهجة تجعلك تسأل لتلعب وتبتهج لا تحتاج إلى أن تخبرك عن أى شىء. فسمكة حجازى ليست سهمًا على الطريق يُظهر للطفل والمشاهد الاتجاه لكنها تشبه الفم المبتسم لتظهر أسنانه ممسكة بهذا السهم المشير إلى الاتجاه وشتان بين الاثنين. إنكَ مع أسماكه لا تملّ وجودها، لقد جعل حجازى بينه وبين الطفل والطفل الذى بداخل الكبار أيضا من محبيه شفرة من لغة تخصه بمفرده فقط يفكها من يتابع أعمال حجازى وينتبه ويشعر بشغف هذا العالم البسيط والمركَّب فى آنٍ واحد. لقد اهتم حجازى أيضًا بشكل مدهش بالعالم المحيط بالسمكة وهو المياه، حيث كانت أمطار حجازى لا ترغب فى التوقف، فمن المياه المندفعة من خرطوم مطافئ أو من حوت يسبح فى الماء أو خرطوم الفيل أو من إناء لسقْى النباتات أو لهطول الماء من السماء أو من صنبور الاستحمام إلى مياه حمام السباحة أو مياه حوض الاستحمام.. وغيرها. وكيف كان يعبر ويشعر بتغيرات تجاه المياه وعلاقتها البديعة التبادلية المبهجة حتى إنه يجعل الماء يحيط بك من كل جانب.. إنها صورة الحياة الأولى..ألا تشعر أنك سمكة؟!