«الدفاع والداخلية» تبحثان تعزيز التعاون الأمني تزامناً مع احتفالات العام الميلادي الجديد    وزير التعليم العالي يترأس اجتماع مجلس الجامعات الأهلية    «الإسكان» تعلن بيع محال تجارية وورشا بمدينتي العلمين وبرج العرب الجديدتين    القابضة الغذائية: التنسيق مع تجارية القاهرة لإقامة معارض «أهلاً رمضان 2026»    محافظ المنوفية يطلق التشغيل التجريبي لمشروع صرف صحي تلا.. صور    صعود البورصة بمنتصف التعاملات مدفوعة بمشتريات من المستثمرين الأجانب    روسيا تدعو لضبط النفس بعد تهديد «ترامب» بضرب إيران    الاتحاد الأفريقى يجدد دعمه لسيادة ووحدة الصومال    الكنيست يصادق نهائيا على قطع الكهرباء والمياه عن الأونروا    الكرملين: محاولة نظام كييف مهاجمة مقر بوتين عمل إرهابى لتعطيل عملية التفاوض    أمم أفريقيا 2025| اليوم.. حسم التأهل والمراكز في المجموعة الرابعة    اتحاد الكرة يعلن مواعيد فترة القيد الثانية للموسم الحالي    صلاح سليمان: كان الأفضل مشاركة الشناوي أمام أنجولا.. وصلاح محسن لم يظهر بالشكل المطلوب    مجلس الزمالك يمنح الأولوية لحل الأزمة المادية بالنادي    راموس يقترب من نيس ليشكل ثنائياً دفاعياً مع محمد عبد المنعم    رفع جلسة محاكمة رمضان صبحى و3 آخرين بتهمة التزوير للنطق بالحكم    ضبط أكثر من 12 طن دقيق مدعم خلال حملات التموين في 24 ساعة    طقس ليلة رأس السنة.. الأرصاد تحذر المواطنين من الأجواء شديدة البرودة مساء    تأخير أسبوعي يربك حركة المترو.. أعمال مفاجئة لشركة المياه تبطئ الخطين الأول والثاني    بهذه الطريقة.. أحمد الفيشاوي يحتفل بالعام الجديد    عاشور: افتتاح مستشفى جامعة الجيزة يجسد رؤية الدولة نحو بناء نظام صحي حديث    وزارة الصحة: تقديم 22.8 مليون خدمة طبية بمحافظة الشرقية    معبد الكرنك يشهد أولى الجولات الميدانية لملتقى ثقافة وفنون الفتاة والمرأة    محافظ بني سويف يتابع استعدادات امتحانات الفصل الأول لصفوف النقل والشهادة الإعدادية    حمدي السطوحي: «المواهب الذهبية» ليست مسابقة تقليدية بل منصة للتكامل والتعاون    حازم الجندى: إصلاح الهيئات الاقتصادية يعيد توظيف أصول الدولة    نقل مقر مأموريتين للتوثيق والشهر العقاري بمحافظتي القاهرة والوادى الجديد    "تبسيط التاريخ المصري القديم للناشئة" بالعدد الجديد من مجلة مصر المحروسة    فيديو.. متحدث الأوقاف يوضح أهداف برنامج «صحح قراءتك»    محافظة الجيزة تعزز منظومة التعامل مع مياه الأمطار بإنشاء 302 بالوعة    الأهلى ينعى حمدى جمعة لاعب الفريق الأسبق بعد صراع مع المرض    الرعاية الصحية: 25.5 مليار جنيه التكلفة الاستثمارية لمحافظات إقليم الصعيد    الصحة تنفذ المرحلة الأولى من خطة تدريب مسؤولي الإعلام    الهلال الأحمر المصري يطلق قافلة زاد العزة ال105 مُحملة بسلال غذائية ومواد طبية وشتوية لدعم غزة    وزير الري يتابع موقف مشروع تأهيل المنشآت المائية    رئيس جامعة الجيزة الجديدة: تكلفة مستشفى الجامعة تقدر بنحو 414 مليون دولار    بنك مصر يخفض أسعار الفائدة على عدد من شهاداته الادخارية    فطيرة موز لذيذة مع كريمة الفانيليا    إليسا وتامر وعاشور في أضخم حفلات رأس السنة بالعاصمة الجديدة    اسعار الفاكهه اليوم الثلاثاء 30ديسمبر 2025 فى اسواق المنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 30-12-2025 في محافظة الأقصر    تعاني من مرض نفسي.. كشف ملابسات فيديو محاولة انتحار سيدة بالدقهلية    كامل الوزير: تكثيف جهود التصدى للتهرب الجمركى والممارسات الضارة بالصناعة    وزير الصحة يعلن خطة التأمين الطبي لاحتفالات رأس السنة الميلادية وأعياد الميلاد المجيد 2026    «التضامن» تقر توفيق أوضاع جمعيتين في محافظة القاهرة    لهذا السبب| الناشط علاء عبد الفتاح يقدم اعتذار ل بريطانيا "إيه الحكاية!"    القبض على المتهمين بقتل شاب فى المقطم    هدى رمزي: مبقتش أعرف فنانات دلوقتي بسبب عمليات التجميل والبوتوكوس والفيلر    إصابة منصور هندى عضو نقابة المهن الموسيقية فى حادث تصادم    إعلام فلسطيني: طائرات الاحتلال تشن غارات شرقي مخيم المغازي وسط قطاع غزة    محافظة القدس: الاحتلال يثبت إخلاء 13 شقة لصالح المستوطنين    حسام عاشور: كان من الأفضل تجهيز إمام عاشور فى مباراة أنجولا    ترامب يحذّر حماس من «ثمن باهظ» ويؤكد التزام إسرائيل بخطة الهدنة في غزة    في ختام مؤتمر أدباء مصر بالعريش.. وزير الثقافة يعلن إطلاق "بيت السرد" والمنصة الرقمية لأندية الأدب    أمم إفريقيا – خالد صبحي: التواجد في البطولة شرف كبير لي    ما أهم موانع الشقاء في حياة الإنسان؟.. الشيخ خالد الجندي يجيب    هل تجوز الصلاة خلف موقد النار أو المدفأة الكهربائية؟.. الأزهر للفتوى يجيب    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 29-12-2025 في محافظة الأقصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سر التكّشف والدهشة فى أشعار المريخى
نشر في شموس يوم 02 - 09 - 2013


رسَمَ يداً خارجةً من جسد
وسأل؟!
قلتُ: يدٌ خارجةٌ من جسد
قال: لا هذي يدٌ، ولا هذا جسدْ
هذا إنسانُ كلِّ زمانٍ ومكان؛
ألمُ الطبيعة.
هكذا هى القصيدة لدى أحمد المريخى والتى جسدها فى قصيدته (سر الصنعة) – ديوان (حركات مراهقين).. تأمل يصنع إختزال واختلاف ثم دهشة تصل بنا حد التكّشف فالمكاشفة.. وقد تؤدى إلى سرور من رأى ما لم يره الآخرون "سُرَّ مَنْ رأى" كما أتى على لسان (النفرى) - أحد كبار المتصوفة المهتمين بعلم اللغة للدلالة على حبهم الشديد لله عز وجل - فى تضمين شاعرنا لهذا القول فى نصوصه القصيرة (الانبلاجات) – فى ديوانه (ضد رغبتى).. إنها الرؤية العميقة لصاحب الخصوصية البصيرة | أو ربما الدرويش فى حضرة الشعر والذى يصفه الناس بأنه المجنون كما وُصِفَ الشعراء المحبين حين وصلوا لدرجة العشق المختلف الذى أخرج لنا درر وكنوز الشعر العربى فمجنون ليلى.. قيس بن الملوح، وعنتر عبلة، وكثير عزة.. وغيرهم من الشعراء الجهابذة كانوا يُتَهَمون بالجنون؛ ولكن شاعرنا هنا كان مجنونه من نوع خاص؛ ذاك النوع الذى يصطفى بصاحبه.. إنه العشق الإلهى الذى يتطلب مواصفات قد لا يقدر عليها الشاعر | العاشق ولكن إذا ما سمح الله عز وجل له فتصبح الرؤية متعة والعيون ليست حواساً عادية ولكنها روحية تبصر مالا تراه عين ولا يخطر على قلب بشر.. حد الوصول إلى يقينية الفناء الجسدى الذى لا يصمد أمام دود متجمع على جثة هامدة كما يظهر جلياً من خلال حوار مكثف إلى حد الإختزال بين الشاعر ومجنونه - من جمال ما رأى حين عشق ربه - والقصيدة تحيلنا لتساؤل هام : ترى من فينا المجنون ؟! وهل الدود الذى يفنى الجسد دود حقيقى أم أنها الأعمال الغير صالحة والذنوب الصغيرة التى توصلنا إلى المعيشة كالأموات بلا إحساس إذا ما تراكمت رويداً رويداً أم أن تلك الديدان بشر من نوع خاص ليس لهم قدر ربما عند عامة الناس ولكن تأثيرهم قوى لدرجة إفناء الجسد وإبقاء الروح إذا ما أثروا فى أحد فأصبحوا يلاحقونه بجنونهم البصير...؟!
قال المجنون في المقهى: (سُرَّ مَنْ رأى)*
قلت: يا مجنونُ تُتعِبُني عيوني!
قال خُذ عيونَ العبدِ يا ألله
قال الله: لا؛
سَلِمتْ عيونٌ مسَّها صوتُ الجنونِ!
قال المجنون: قُلْ
قلتُ يا مجنونُ أنا.../
ُقلْ
قلتُ أنا يا.../
ُقلْ
قلتُ اتئد؛
ضعيفٌ هو الدودُ لكنهُ
إذا ما نغى
يفني جسد.
قصيدة (الانبلاجات) – ديوان (ضد رغبتى).
إن قراءة إبداع شاعرنا من خلال ديوانيه (ضد رغبتى) و (حركات مراهقين) يجعلك تشعر أنك أمام من يبحث عن كنز مفقود يريد أن يصل إليه بالتأمل ثم الكتابة التى تصنع الدهشة..
أحمد يبحث عن سر مخفى لدى البشر والطبيعة | سر للوجود والكينونة.. حتى الإبداع له سر أو كنز دفين لا يفك طلاسمه أو يطلع على خبيئته إلا المتأمل الموجود فى كل وهلة ودفقة | الذى لديه الاختلاف فى التكوين والرؤية إنه المريخى ذاك الشاعر الأسوانى الذى أخذ من نبض الفراعنة الحكمة والصبر على صنع اللحظة الإبداعية بالمعنى المغاير والتى تتجلى فى كلماته التى نشرت فى شهادته الإبداعية بمجلة (أدب ونقد)، عدد فبراير 2009 عقب صدور ديوانه الأول: "عشرون عاماً من العلاقة الوثيقة بالكتابة/ الشعر، علاقة لا يحركها إلا الشديد القوى، فكثيراً ما أفقد دهشتي وأقعد ملوماً محسوراً، يأخذني التأمل، وعندما يجتاحني الشوق وتتجلى الدهشة تأتي الكتابة".
والذى يؤكدها فى نصوص (الانبلاجات) والتى اعتبرها حالات متوازية لديه كما يصفها فى ديوانه (ضد رغبتى) :
كنتُ أكتبُ لأنني مُندهش!!
إذاً فالتأمل والدهشة هما اللذان يصنعان النور السابح من إنفلاق الليل إلى صبح شفيف فيكون إبداع أحمد المريخى.
بوقفة متأملة فى ديوانيه (ضد رغبتى ، وحركات مراهقين) نجد:
أولاً: السخرية متجلية فى العنوانين فإبداع أحمد لحظة شفافية من نوع خاص.. متكاملة وممتدة بل وتتضح بجلاء فى كم علامات الترقيم المستخدمة فى نصوصه والتى تركزت أكثر فى الفاصلة المنقوطة (؛) للجمل التي تكون إحداها سبباً للأخرى والتى أكثر منها فى ديوانيه ليدلل على أن حياتنا وما يحدث فيها أما من خلال أسباب معينة أدت لذلك أو نتيجة لأفعال معينة قمنا بها نحن أو غيرنا؛ وهذه الرؤية فى البحث عن الأسباب والمسببات هى رؤية تحليلية لا تأتى إلا عن خبير متأمل فى كل شئ.. ونتيجة لذلك يفصص مواقف حياتية لبشر وأشياء نلحظها كل يوم ولكّننا لا نتكشفها مثله.. وتجلت (؛) أكثر فى قصيدة (الانبلاجات) – فى ديوان ضد رغبتى، (المصعد، درس الكراهية، حصة اليوم، والجريدة) فى ديوان حركات مراهقين، والفاصلة (،) التى توضع بين الجمل المتصلة المعنى وبين أقسام الشيء الواحد، والنقطتان(..) اللتان توحيان بأن هناك تمهيد لكلام قادم، والنقاط الممتدة والتى يطلق عليها علامات الحذف (......) والتى توضع مكان الكلام المحذوف أو فى نهاية جملة قطعت لسبب، وكذلك البياض ( ) الموحى بمعانٍ عجز اللسان عن قولها، وعلامتى التنصيص (" ") والتى إستعان بها لنقل كلام مباشر عن آخرين ليؤيد به فكرة أو رؤية لديه، والنقطتان ( : ) بعد القول، والشرطتان (- -) اللتان تستخدمان قبل الجملة الإعتراضية وبعدها، وكذلك إستخدامه لعلامتى التعجب(!) والإستفهام (؟) وإختلاط كل ذلك فى معظم قصائده يوحى بإستعانة شاعرنا بالقاموس الغير لفظى الذى يدعم التأمل والتفكر لديه للوصول لمراده الإبداعى كما يؤكد على عمق الرؤية والفكر وإختلافه وخصوصيته وتميزه.
وهذا متكرر فى الديوانين ويعنى أن ما يكتبه أحمد ليس ضد رغبته ولا هو حركات للمراهقين وإنما يسخر من عدم توافق الواقع المرير مع إبداعه فكيف يكون الإنسان يتحرك ضد نفسه فيقابل ضده ثم يصيرا ضدين ضد النفس ثم يترتب على ذلك أو يكون نتيجة له أن يصبح ما يؤخذ على نفس الإنسان أن الكون المحيط به محايد وأنه ينحاز إلى نفسه، إن هذا المعنى الذى قدمه فى انبلاجتين من انبلاجاته الخاصة بضد رغبتى تؤكد السخرية التى يحملها عنوان ديوانه..
؛
تحركتُ ضدّي
فقابلت ضدّي
وصرنا ضدّين.. ضدّي!!
؛
ثمَّة شيءٌ يؤخذُ علىّ؛
أشعرُ أنَّ الكونَ محايد
وأنا قد أنحازُ إلىّ.
كما أنه يؤكد سخريته ممن يصفون كل جديد فلسفى بأنه من صنع مراهقين ويظهر ذلك من خلال فكر قصيدته (سر الصنعة) وما تحمله من نضج إبداعى ورؤية مغايرة يقدمها ابن مراهق لأبيه من خلال الفن التشكيلى الذى يفسر الحياة والطبيعة، كما نراه فى بعض قصائد الجزئين الثانى والثالث للديوان التى تعبر عن علاقات ومشاعر إيجابية أو سلبية قد تفسر بأن صاحبها مراهق.. ولكنها - من وجهة نظرى - خوض وتأمل فى النفس البشرية بكل ما تحمله من متناقضات قد نتفق معها أو نختلف ولكنها فى النهاية واقع حياتى ومشاعر إنسانية لدى البعض، كما أن قصيدة (عرض أخير) والتى أهداها لحركة 6 أبريل يؤكد نفس المعنى من لفظة (حركة) والتى يسخر فيها من كم الأذى المعنوى والمادى الذى يتعرض له أفرادها.
ثانياً : تقسيم أحمد لكلا ديوانيه إلى ثلاث أجزاء فالأول ينقسم إلى (الانبلاجات – رغم ذلك – المسودة)، والثانى ينقسم إلى: (سيرة ذاتية للصبر – حكايا – على مشارف الأربعين)؛ بالإضافة إلى إهداء الديوانين إلى أصدقاء وإن كان الأول أهداه إلى أصدقاء بشكل عام هو قريب جداً منهم وهم بعاد جداً عنه.. (آلو | | يا أصدقائي الذين أُحبُّهم كما أحبتني أمي | آلووووه)، والثانى إهداءه فيه إلى أصدقاء بعينهم رحلوا ولكنهم داخل نفس الشاعر أحياء ينتظر لقاءهم (إلى الأحباب حتى نلتقى: | «على عبد الباقي، حسام حسن عطية، جمال عبد الحق» | |عَرفتُهم كما يعرفُ صاحبُ الدارِ عابرَ سبيلٍ.. | وقد ماتوا على بابي!!).
كذلك تصدير الديوانين يظهر فيه التأمل جلياً:
ففى الأول (كان يمكنُ لنا أن نصبحَ عائلةً واحدةً.. |لكننا فكَّرنا في ذلك على انفراد.) فالتأمل وإعمال العقل كان سبباً فى انفصال الحبيبين وعدم تكوين أسرة.
وفى الثانى (سيحتلُّ مساحةً في الشادرِ.. |لكنهُ |لا بائعٌ.. |ولا شار!!) يدفعنا إلى التساؤل ترى من هذا الذى سيحتل مساحة فى شادر لا بائع هو فيه ولا شارٍ إنه المراقب المتأمل لما يحدث إنه ليس إنساناً غريباً وإنما هى البضاعة الجديدة نفسها التى تباع وتشترى ولا تملك حيال نفسها شيئاً.. وإى إن كان الرمز للشادر هل هو فعلاً مكان للبيع أم هى الحياة التى نعيشها أم هو الوطن الذى نحيا فيه، وأى إن كان البائع والشار فهناك دائماً البضاعة المعروضة التى ستضاف للمكان ولا حول لها ولا قوة إلا أنها ستحتل ذاك المكان .. وربما قصد شاعرنا بها مجرد بضاعة | أو قصد بها مولود جديد | رقم جديد فى بنى البشر سيباع ويشترى من قبل حُكَامه؛ موجود ومتأمل ولكنه لا يفعل شيئاً سوى شغل مكان..
وهذا يعنى أن الديوانين متوازيان فى نظامهم التقسيمى والفكرى بل ربما هما متكاملان وهذا سيتضح من القراءة التالية.
ثالثاً : على المستوى القرائى للديوانين سنجد أن الديوان الأول يطرح تساؤلات يجيب عنها الديوان الثانى عملياً من خلال الحكى الإبداعى والفكرى..
ففى الجزء الأول لديوانه ( حركات مراهقين) والذى حمل اسم (سيرة ذاتية للصبر) يواصل المريخى تكشف أسرار حياة البسطاء من خلال حديثه عن غازلة الصوف وفاتل الحبالٍ وصانع الفَخَّار وبائع السمك ثم يجمع بينهم فى قصيدته (موالُ الصبر) إنه يوائم بين دفء الإحساس عند بشر | بسطاء ولكنهم يصنعون الاختلاف من بين براثن الحاجة | يدهشونك لأنهم متمسكون بالإخلاص بالرغم من جور الزمان عليهم فغازلة الصوف بالرغم من كونها عجوز | صّورها بأنها أكلت الحزن فى دلالة على قمة مأساتها مع الحياة | كفيفة ولكنها تمتلك نوراً مختلفاً نور القلب حيث صورها بأنها "طعنت عين المغزل بالضوء"| وتدرك أن أجلها قرب فى أى لحظة "تدرك أنها الضيف الخفيف" | وتعرف مفردات عملها جيداً إلا أنها امتلكت البصيرة التى عشقت من خلالها الفقراء فدفئت الليل ببردة يومية جعلتها تنام آمنة؛ بل وزاد عطائها حين صور يديها تنشران الشمس فى دلالة إبداعية على مدى شفافيتها ونقاءها بل وعشقها لنشر العلم الذى منح لها من الحياة فى مجالها.. بل أنها لم تكتفى بذلك وجعلت من تعليم الأطفال سراً لألعاب الطبيعة أى أعطتهم خبرتها فيما عانت منه وكأنها جعلت ذلك صدقة لها تعطى فى السر ..
عجوزٌ..
أكلت الحزنَ، وطعنت عينَ المغزل بالضوء،
تدركُ أنها الضيفُ الخفيف
تعرفُ الغنَّام والصوّاف وتاجرَ النسيج
وتعشقُ الفقراء،
تهبُ الشتاءَ فى كلِّ ليلٍ بُردةً
وتنامُ آمنةً
لكأنَّ يديها تنشران الشمس
وفى السرِّ..
تُعلِّمُ الأطفالَ ألعابَ الطبيعة.
وكأن غازلة الصوف تصنع ذاك الفعل الذى تمناه المريخى فى قصيدته (تخطيط) فى ديوانه – (ضد رغبتى)..
.. وفى لحظةٍ كتلك؛ بعد قيامةٍ قادمة
يجيءُ رسولٌ
يردِّدُ كلماتٍ تشبهُ كلماتي
وفى حياةٍ تشبهُ هذه الحياة
يقول لكم- يا ناس-:
حاولوا أن تلمسوا السماء بأصابعكم،
فهذا من الإيمان.
وإنْ استطعتُم أن تخدشوها
لا تؤجلوا جَرأتكم؛ عسى أن تظفروا بما لم تُدركوا
يقول لكم أيضا:
اخلعوا حيادكم، وحاوروا الله كلَّ ليلٍ
كي تزدادَ معرفتُكم:
- يا ناس- ماذا تبتغون من سكونكم
إن كنتم تتأملون اطرحوا نتاجكم
- قبل أن تسكنوا أبدا-
وإن كنتم ساكنين بطبيعتكم
اصَّاعدوا شيئاً فشيئا
قبل أن يأتي رسولٌ
يسخرُ منكم
في حياةٍ تشبهُ هذه الحياة.
إن غازلة الصوف تخطط للآخرة دون أن يشعر بها أحد سوى خالقها .. تكتشف الكنز فتصنع ما يجعلها تنفذ من براثن الدنيا فى هدوء يؤهلها أن تتطرح نتاجها من الخير قبل أن تسكن | تموت ؛ بل وتتصاعد شيئاً فشيئاً أى تعلوا بهمتها وعملها عند خالقها قبل أن تأتى محاسبة الآخرة التى صورها بحياة أخرى نحياها ..
وقد تجلت الرؤية عند شاعرنا فى هذه القصيدة والتى استخدم فيها أفعال الأمر (حاولوا أن تلمسوا السماء بأصابعكم | لا تؤجلوا جرأتكم | اخلعوا حيادكم | حاوروا الله كل ليلة | اطرحوا نتاجكم | اصّاعدوا كل ليلة) وقد جعل هذه الأفعال الآمرة ستأتى على لسان رسول لدفع الآخرين للرقى بأحاسيسهم وأفعالهم للوصول للحظة المبتغى ألا وهى التصالح مع النفس بمحاورة الله؛ فى حين استخدم أفعال الماضى فى آلآلم غازلة الصوف (أكلت الحزنَ، وطعنت عينَ المغزل بالضوء) والمضارع فى معرفتها وأفعالها (تدركُ أنها الضيفُ الخفيف | تعرفُ الغنَّام والصوّاف وتاجرَ النسيج | وتعشقُ الفقراء | تهبُ الشتاءَ فى كلِّ ليلٍ بُردةً | وتنامُ آمنةً | يديها تنشران الشمس | تُعلِّمُ الأطفالَ ألعابَ الطبيعة) للدلالة على تغلبها على محنها بالإيمان ووصولها إلى يقين المعرفة وأنها مُنِحَت سر الأشياء وبأن الباقى هو الخير واستمرارها فى فعله بغية الآخرة، حتى تلك المسافة التى جعلها المريخى بين صورة نشر الشمس بيديها وهى دلالة على المعرفة والعلم الذى مُنِحَ سره للعجوز ، وتعليمها فى السر للأطفال ألعاب الطبيعة وتدل على إمتداد الوقت وصبر العجوز على الأطفال لمنحهم سر العلم الذى وصل إليها من الحياة؛ كما ظهرت رمزية وشفافية الصورة الشعرية الداهشة عند المريخى فى قوله:
" يا ناس-:حاولوا أن تلمسوا السماء بأصابعكم، فهذا من الإيمان .| وإنْ استطعتُم أن تخدشوها | لا تؤجلوا جَرأتكم؛ عسى أن تظفروا بما لم تُدركوا".
إن هذا التصوير الصوفى المجازى يرمز إلى فعل ما يقرب الإنسان من ربه بل ويجعل الله يحب هذا العبد فالإنسان لا يلمس السماء ولا يخدشها فى الواقع ولكنه يرتقى بروحه عن طريق أفعاله الإيجابية المغايرة والتى لها خصوصية ذات أبعاد شفيفة تجعل الله عز وجل يرضى عنه فيحبه فيصبح سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها حتى يعُطى ما يطلب كما ورد فى الحديث القدسى..
إن العجوز تقربت إلى الله بنوافل من نوع خاص حثنا عليها رسولنا الكريم (ص) ألا وهى الدين المعاملة .. وهو ما يتوافق مع رسالة شاعرنا المتأملة فى أفعال البشر.
أما فى قصيدته (صاحبُ طائر) – ديوان حركات مراهقين - والتى استطاع أن يجسد فيها سر الموت والحياة من خلال تصويره لأب أراد أن يعلم إبنه الوحيد سر الموت حتى لا يصدم فى موته هو يوماً فمهد لذلك من خلال طائر أتى به إليه فأنساه آلآم وحدته وقضى معه أسعد أيامه ..
كانا..
فرحين بعطيةِ الأب،
والأبُ يعلمُ أنه في يومٍ ما،
وفي لحظةٍ ما،
علي هذه الأرض،
سوف يرقدُ الطفلُ علي طائره ويصحو وحيدا؛
كان شغوفاً بأن يدخلَ الابنُ التجرُبة.
حتى حانت لحظة الفراق التى سعد بها الأب لأنها ستعلم ابنه سر الموت فلا يصدم نفس الصدمة الأولى التى تعلمها من موت طائره إذا ما مات أبيه ولذا كان سر سعادة الأب بالرغم من حزن الإبن الشديد وشعوره بالزهد فى الحياة والذى صوره شاعرنا فى صورة شعرية تجسد وجع الطفل الشديد من تجربة الموت وصدمته (كان الطفلُ مُعلَّقًا بطائره | كناسكٍ عجوز يتَلمَّسُ الغفران،) وعلى النقيض موقف الأب من ذلك (والأبُ يغنّي؛ .........!! ) ..
لقد صور شاعرنا لحظة السعادة والألم التى جسدت النقيضين بين إحساس الطفل والطائر فى لقطة قص الأب لريش الطائر فى غفلة من إبنه ليبقى معه دون فرار حتى تحين لحظة الفراق بالموت ..
كان الأبُ يغافلُ الابنَ،
وكلما نما ريشُ الطائر قصَّهُ
وهكذا عاش الطائرُ مع الألم، بينما سما الطفلُ فوق آلامه؛
إن ألم الطائر كان من السجن المخالف لطبيعته فى الحرية والتحليق والذى صوره شاعرنا فى قصيدته (هامشُ جسد) فى ديوان (ضد رغبتى) ويقول فيها :
(1) السجن
الدجاجةُ فوق أسطُح البيوت
لا تُجرِّب الطيران
هي تعرفُ أنها محبوسةٌ أصلاً
الحمامُ أيضاً
ينامُ في سماءِ الله فارداً جناحيه.
= وقد استخدم المفارقة في اختلاف رد فعل الأب والإبن فى إستقبالهما لحدث موت الطائر..
وفي يومٍ ما،
وفي فراشه
كان الطفلُ مُعلَّقًا بطائره
كناسكٍ عجوز يتَلمَّسُ الغفران،
والأبُ يغنّي؛ .........!!
وكأن حال الأب يقول لإبنه معلماً كما ورد فى قصيدة (الانبلاجات) – ديوان ضد رغبتى..
ورسمتُ شجرةً
علَّقتُ فيها الربيعَ..
ولمّا جاء الخريفُ استدارتْ
مرَّتْ على مرفقىّ وقالت: سلاما!!
وما يؤكد المعنى السابق إستخدام التراث الشعبى فى شكل الموال الذى يغنيه الطفل لطائره وهو يلاعبه ولم يكن يدرك معناه قبل موت الطائر..
"«ناح الحمام.. حول المقام..
والنبي ع البُكا.. ع البُكا غنّى»!!"
إنه البكاء النقى الذى يهدئ النفس ويجليها مما علق بها من آلآم؛ والحقيقة إن إرتباط أشعار أحمد بسر فلسفة الموت عميقة جداً فهو تارة يراها فى رمز السمك الذى يخرج من الماء فيموت جسداً ولكن تبقى روحه كوردة نضرة..
؛
يريدون أن أُعلِّلَ موتى!!
...................،،
وبماذا أُعلِّلُ روحَ السمكِ خارج المياهِ إذا
كان كوردةٍ لا يذبل رحيقُها أبدا؟
؛
(الانبلاجات – ديوان ضد رغبتى).
وأخرى بإرتباط السمك بصاحبه حتى اذا غام عنه بالموت بكى حزناً عليه بالرغم من أنه يصطاده ليبيعه للغير ليأكله، كما أنه رسم صورة لهذا الحزن المرير بإنحسار الشارع بكل اتساعه فى كردون الرصيف الضيق الذى كان يجلس عليه السماك..
بالأمس كدتُ أضل؛
غامت الروائحُ، فانحسر الشارعُ في كردون الرصيف
ولأول مرةٍ..
الصنارةُ عالقةٌ بالمقطف،
والسمَّاكُ علي الأرض؛
عيونه طاسةٌ
والدمعُ زيت
والسمكُ يبكي!
(قصيدة بائع السمك – ديوان حركات مراهقين).
إنها فلسفة التأمل والخصوصية التى تجعل الناس يستدلون على بعضهم من خلال تلك الرائحة (ولم أكن سوي ساكٍن يستدلُّ علي بيته بروائح السمَّاك..)
إن للسماك وسمكه سر يتكشفه شاعرنا من خلال تأمله المستفيض فى قصيدته (بائع السمك)..
صار علامةً؛
إذا قصدت الحيَّ.. عند السمَّاك
إذا أردت الحظ.. عند السمَّاك
إذا طلبت الصبرَ عند السمَّاك
والسعادةُ السمَّاك
كان يبيعُ السمكَ مرةً.. ويبيعُه السمكُ مرات!
صار سرَّ شارعنا
والطبيعة لها سر يبحث عنه المريخى فى إبداعاته حثيثاً بل وربما يبحث عن نفسه من خلالها ومن خلال الآخرين، وتكشفه لأفكارهم كما ورد فى قصيدة (سر الصنعة) – ديوان حركات مراهقين..
ثم رسم نفسه، أو هكذا خُيِّلَ لي
قلت: هذا أنت
قال: هذا داخلك؛ يُشكَّلُ خارجك.
وراح يتلو رسماته؛
«الرأسُ، العينُ، الأذنُ، الأنفُ، الفم»..
وأضاف الأشجارَ والأنهارَ والصحراءَ والْ..
قلتُ: هي الطبيعةُ؛ خارجُك يُشكِّلُ داخلك!
أو من خلال رؤية خاصة لمفردات الطبيعة يراها هو فى قصيدة (الانبلاجات) – ديوان ضد رغبتى - بعين مغايرة فالأرض لديه تطرح دخان حين تأتى بزرعتها وهى رؤية واقعية مغزولة بشكل فنى وتدل على مرارة العيش وصعوبته..
؛
الأرضُ استوت
لكن الطرحَ..
دُخان.
؛
كما أنه صور ضمور الخير فى حياتنا فى قصيدة (هكذا) – ديوان ضد رغبتى -بشجرة وارفة ممتدة الظل حتى أن العابرين يستحمون فى ظلها.. كناية عن مدى عطاءها لهم ولكن الأرض تحولت إلى وحش ابتلع هذا الظل فانعكس تكوينها لتصبح أغصانها تنام تحت الجذوع مما أعطى الفرصة للريح أن يمارس لعبته | دوره العاصف فيصبح كالرمل الذى يسحب خفه من قدم ناقة شاهقة .. وهى صورة موحية بالإنهزام والإنكسار الذى تعانيه الطبيعة وينعكس علينا كبشر.
هكذا الشجرةُ التي كانت ظلالُ العابرينَ تستحمُّ في جسدها؛
ابتلعتِ الأرضُ ظلاَلها،
ونامت أغصانُها تحت الجذوعِ،
فمارَسَ الريحُ لعبَتهُ..
كرملٍ يسحبُ خُفَّهُ من قدمِ ناقةٍ شاهقةٍ.
وهكذا كعنوان قصيدته التى طرحنا جزءً أخيراً منها.. كلما تجولت أكثر فى إبداع المريخى وجدت خطّى تماس بين الديوانين وكأنه يطرح تساؤلات فكرية عميقة من خلال المفارقة والصورة الشعرية الداهشة المتأملة وعلامات الترقيم التى تؤكد هذه الفكرة كما أن الديوانين أفكارهما متكاملة.. ولأن رؤاه تتميز بالعمق وتنوع الأفكار فأكتفى بهذا القدر الوجيز من قراءتى لإبداعه تاركة المجال لآخرين يزيدوننا معرفةً وإشراقاً حول إبداع المريخى.
(1) أحمد المريخي، حركات مراهقين، دار وعد للطباعة والنشر- القاهرة 2011 – الطبعة الأولى.
(2) أحمد المريخي، ضد رغبتي، سلسلة إبداعات (260) الهيئة العامة لقصور الثقافة 2008 – الطبعة الأولى، مؤسسة عماد قطري الثقافية – 2012 – الطبعة الثانية.
(3) شهادة إبداعية، مجلة (أدب ونقد) - عدد فبراير 2009.
- المصدر: جريدة المستقبل الآن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.