لقاء معتز الدمرداش مع الفنانة والإعلامية نجوى إبراهيم فى برنامج 90 دقيقة كان له فرادتُه وخصوصيتُه. من حيث إنه لقاءٌ جمعَ وجهين طِفلين؛ لن تطالهما الشيخوخةُ أبدًا. تلك منحةٌ تمنحها السماءُ لبعض أبنائها من البشر ممن يقبضون أبدًا على شمعة الطفولة ألِقَةً وهّاجةً داخل قلوبهم، وإن بلغوا مائة عام. يمتلك معتز تلك المنحة الإلهية، مثلما تمتلكها ماما نجوى بوجهها العَذْب الطفل. سألها معتز ماذا تعنى بأنها تمتلك مصنعًا للسعادة. فأجابته أن ثمة الكثيرَ مما يحدث لنا قمينٌ أن يمنحنا السعادةَ، لكننا ندعه يمرُّ دون تبصّر. مجرد أنْ نصحوَ من نومنا، بعد ميتتنا الصغرى نيامًا، شىءٌ مبهج، أنْ نكتشف أن بوسعنا أن نحرّكَ أطرافَنا، ثم ننهضَ من الفراش، ثم نتعاملَ مع يومنا دون حاجة إلى من يحملُنا أو يساندُنا، أن نتكلمَ، أن نفّكرَ، أن نحْلُمَ، أن نعملَ؛ كلُّ هذه عطايا من السماء، ومتعٌ ومباهجُ كبرى؛ فكيف نسمح للغضب، بعدئذ، أن يغمرَنا لمجرد أنَّ أحدَهم، مثلاً، زاحمَنا فى الطريق، أو كشّرَ فى وجهنا، أو أخذَ مكانَنا فى طابور، الخ؟ هذه صغارات تتضاءلُ جوار المِنَح السماوية العُليا التى نمتلكها ضمن مصنع السعادة الضخم الذى مفتوحٌ داخلَ أرواحنا، ينتظرُ أنْ نُفعّله. هذا الإدراكُ العميق لفكرة الفَرح والبهجة، لا يمتلكه إلا من أصرّوا على القبض على الطفل الذى فى أرواحهم. نحن نسمحُ للطفل داخلنا أن يكبرَ وينضجَ ويَهرمَ ويشيخَ ثم يموت، ونحن بعدُ فى شرخ الصبا! وهو ما يقتلُ معه، أوتوماتيكيًّا، القدرةَ على الشعور بالفرح والدهشة من موجودات العالم. نحن من يغلقُ بإرادتنا «مصنع السعادة» لأجل غير مسمى، ويطرد، مع إغلاقه، ويشرّد آلافَ العمّال الذين كانوا يعملون من أجلنا مجانًا لوجه الله تعالى، ولوجه الجمال والحب والفرح. أولئك العمّالُ هم الروحُ والعقلُ والأعضاءُ، والأهمُّ هو الوعى بفكرة الفرح وانتزاع البهجة عنوةً من الحياة، حتى ولو كانت كل دفوعاتها تدعونا للكآبة والحَزَن واليأس. سأحكى لكم قصةً من الفولكلور تحمل جانبًا مشرقًا، وجانبًا عدميًّا. كان أحد الفقراء يجلسُ فى جزيرة يصطاد سمكة، وتكسو وجهه سيماءُ الراحةِ والسعادة. مرّ به أحدهم وسأله لماذا يجلس هكذا؟ فقال: لكى أصطاد سمكةً وأستمتع بوقتى. فقال له الثانى: لماذا لا تصطاد سمكًا كثيرًا بشبكة كبيرة ثم تبيعه، بدلاً من اصطيادك بصنارة سمكةً واحدة لتأكلها؟ فقال الأول: ثم؟ فأجابه: ثم تبيع وتبيع حتى تشترى قاربًا للصيد. فسأل الأول: ثم؟ فأجابه: ثم تثرى وتشترى أسطولاً للصيد، ثم أساطيلَ كثيرة. فسأله الأول: ثم؟ فقال الثانى: ثم تثرى جدًّا فيكون بوسعك أن تشترى هذه الجزيرة التى تجلس عليها، ووقتها تقدر أن تستمتع بوقتك وتصطاد سمكة بصنارة! فأجابه الأول: ها أنا ذا وصلتُ الهدفَ النهائىَّ دون كلِّ الجهد الذى تريدنى خوضَه! بالحكاية جانبٌ عدمى سلبىٌّ كسولٌ بالطبع، وأنا من الذاهبين إلى أن العملَ هو أصلُ السعادة فى الحياة والشعور بالثقة والامتلاء. لكننى أشيرُ إلى فكرة المقدرة على اقتناص البهجة حتى فى أحلك الظروف ومع أقصى وأقسى درجات الفقر والعَوَز. التفاؤلُ والبحثُ عن نقاط النور وسط العتمة مَلَكةٌ كبرى، لا يمتلكها سوى الكبار. الكبارُ روحًا ووعيًا. أولئك القادرون على تدليل الطفل الذى يربض فى قلوبهم فلا يسمحون له بالكِبَر أبدًا. من أولئك، وعلى رأسهم، يقفُ المفكر المصرى الكبير محمود أمين العالم. لم نره إلا مبتسمًا متفائلاً. رغم أن وعيه السياسىَّ الفائق كان يجعله مدركًا حلكةَ اللحظة التاريخية المظلمة التى نحياها. كان يبتسم مراهنًا على غدٍ مشرق، لم يره هو، وربما لن نراه نحن، هو الذى تشقّق ظهرُه بسياط معتقلات 59، هو الذى خسر رهاناته وشهد انهيار حلمه الاشتراكى بعينيه. تجده يمازح البسطاءَ فى الشارع، وينادى على بواب العمارة وبائعة الخضر وسائس الجراج بأسمائهم ويسألهم عن أولادهم وأحفادهم، وابتسامةٌ طفلةٌ ترقصُ على وجهه الجميل. هو الذى لم يسمح لطفل روحه أن يهرَم ويشيخ، لذلك مات شابًّا يافعًا، فى الثمانين من عمره. [email protected]