الصقور وتجار الدين والقومية يتشاورون للقفز على انتفاضة الشعب السودانى ضد الاستبداد العسكرى الملفع بالطائفية والعرقية شهد السودان منذ نحو العام موجة احتجاجات محدودة تم قمعها بدموية شديدة، وترتب على ذلك ليس وضع حلول للمشكلات والأزمات المزمنة، بل زيادة القبضة الأمنية وتفاقم الأزمات المعيشية والاقتصادية، بينما المناوشات متواصلة مع جمهورية جنوب السودان من جهة، وتزايد سطوة القوى والتيارات الدينية على المجتمع من جهة ثانية، وتزايد حدة المواجهات فى دارفور وعديد من الولايات الأخرى من جهة ثالثة. هكذا بدا، وما زال يبدو المشهد السياسى والميدانى والعقائدى فى السودان الذى لم تتعلم حكومته من دروس الدول الجارة، ويبدو أن حزب المؤتمر الوطنى الحاكم وقياداته العليا وصولا إلى الرئيس السودانى نفسه اطمأنوا تماما لهدوء واشنطن الشكلى بعد أن قدم إليها النظام السودانى خدمات جليلة فى المعركة ضد القذافى فى ليبيا. الآن بدأت موجة جديدة ضد الحكم العسكرى-الدينى فى السودان الذى تم الاستفتاء على تقسيمه فى 9 يناير 2011 وجرى الاحتفال بذلك فى جوبا عاصمة جمهورية جنوب السودان فى 9 يوليو 2011. وإذا كان الجنوب السودانى انفصل عن شماله لأسباب يطول شرحها منذ أواسط القرن العشرين، إلا أنه لم يكن أمام الحكومة العسكرية-الدينية فى الخرطوم إلا التبريرات الطائفية والعرقية من قبيل تنظيف العنصر العربى-الإسلامى من الشوائب! أو وضع السودان على أول طريق الخلافة الرشيدة، خصوصا أن حزب التحرير الإسلامى المدرج على قوائم الإرهاب فى الكثير من دول العالم يمارس نشاطاته فى السودان برعاية حزب المؤتمر الوطنى الحاكم وجميع أركان النظام السياسى. أما الإخوان المسلمون فهم يلعبون دورهم المعروف بالتنسيق مع هذا الجانب تارة ومع ذلك الجانب تارة أخرى. ورغم هذا التبسيط الشديد، فإن الخريطة الدينية والعقائدية والعرقية أكثر تعقيدا مما يبدو. فالحركة الصوفية، على سبيل المثال، فى السودان ضخمة وكبيرة وتمثل كتلة شعبية واجتماعية وانتخابية ضخمة! من الواضح أن نظام البشير العسكرى-الدينى كان الأنسب لتحقيق جملة من المتطلبات، على رأسها تقسيم السودان إلى شمال وجنوب، وتحويل السودان إلى بؤرة لانطلاق الحركات والعصابات الإسلامية المسلحة بداية من عصابة بن لادن وليس انتهاء بمجموعات وطلائع حزب التحرير الإسلامى الذى يعيش قادته الكبار فى دول أوروبية مختلفة، ويحصلون على كل أنواع الدعم المادى واللوجيستى. لقد تحدثنا حتى قبل الاستفتاء على التقسيم عن الحركات الانفصالية فى دارفور وكردفان وجبال النوبة والجهود القطرية فى هذا الاتجاه بتحريض مباشر وغير مباشر من الولاياتالمتحدة وبعض الدول الأوروبية. هكذا نجحت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الإقليميون والدوليون فى استخدام نظام البشير، بالضغط تارة، وبغض الطرف تارة أخرى. بينما ظهرت منذ عدة أيام تصريحات جديدة من المحكمة الجنائية الدولية بضرورة اعتقال البشير الذى تصور أنه قد أصبح بمأمن بعد خدماته الجليلة. لقد أجريت عدة لقاءات مع المفكر والأيديولوجى باقان أموم، الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان وزير شؤون السلام فى حكومة الجنوب، فى الفترة من 2009 إلى 2011، أكد فيها أن حزب المؤتمر الوطنى وحكومة الشمال فشلت تماما فى إدارة شؤون البلاد، مما أدى إلى حسم الأمر بانفصال الجنوب. وأكد أيضا أن قادة الشمال فشلوا فى استثمار التنوع العرقى والدينى للسودان الموحد والكبير والغنى وصمام الأمان لإفريقيا. لكن المفارقة هنا هى أن قادة حزب المؤتمر الوطنى الحاكم فى شمال السودان كانوا فى تلك الفترة يتحدثون، لذر الرماد فى العيون، عن برامج قومية للحفاظ على وحدة أكبر بلد عربى، بينما الشارع السودانى البسيط والممزق، بفعل الآلة الإعلامية الطائفية، كان يرى ضرورة أن ينزاح الجنوب المتخلف (وألفاظ أخرى مخزية) عن صدر السودان، وكأن الجنوب دولة أخرى تشكل عالة وعبأ على صدر الشارع السودانى البسيط. أما الشعار الذى طرح فى انتخابات أبريل 2010 (لا تعطوا أصواتكم لمن لا ينفذ شرع الله) فكان مخزيا بكل المعايير ويلخص حالة من التطرف لا تتناسب إطلاقا مع طبيعة الشعب السودانى الأكثر طيبة وتسامحا وتصالحا مع طبيعته الإنسانية الخلاقة والنادرة التى لا يتمتع بها أى شعب آخر. ولكن الحملة الإعلامية الطائفية كانت قد بدأت لتربط بين أزمات المواطن العادى وبين وجود المسيحيين «الكفار» وانتشار الرذيلة فى البلاد. وهو الأمر الذى لم يسلم منه معارضو نظام البشر من غير المسيحيين، وكانت المرأة السودانية الأهداف الرئيسية لضربات ظلامية ورجعية وانتقامية موجعة تذكرنا بدموية القرون الوسطى فى أوروبا وعلاقة الكنيسة بالمرأة تحديدا. السودان أمام خيارات أسوأ من بعضها البعض الآن. فالصقور وتجار الدين والقومية والطائفية والتمييز العرقى يتدبرون الأمر الآن ويتشاورون بشأن توقيت القفز على انتفاضة الشعب السودانى ضد الاستبداد العسكرى الملفع بالطائفية والعرقية. بينما يمثل الشباب السودانى الاستثناء الوحيد ضمن كل الخيارات السيئة المطروحة. ومن الواضح أن الأب الروحى حسن الترابى الذى خرج البشير من معطفه لم يعد صالحا لهذا الزمان. بل يمكن أن ينسحب الأمر على الصادق المهدى أيضا، وكل قيادات ما يسمى بالمعارضة السودانية المتلفعة بشعارات أقرب إلى بعضها البعض من حيث الشكل الدينى والقومى والقبلى، بينما جوهرها المصالح والأراضى والأملاك وما تمت مصادرته من ممتلكات بسبب الخلافات السياسية والمالية وتصفية حسابات. وهذا الأمر ليس بغريب على قيادات معارضة تجمع بينها روابط المصاهرة والزواج فى شكل أقرب إلى نمط العلاقات القبلية الذى لم يعد يتناسب مع تطلعات الأجيال الجديدة فى السودان..أهل السودان أدرى بشعابه. ومن الصعب تقديم النصائح، خصوصا فى ظل التعتيم الإعلامى المضروب بمنهجية وإصرار على ما يجرى فى السودان منذ سنوات طويلة، والاتفاقات الضمنية والمعلنة على عدم المساس بهذا البلد بحجة عدم تكريس الانفصالية. ومع ذلك انفصل جنوب السودان برضاء دولى منقطع النظير. وعلى الرغم من كل محاولات الابتعاد عن نظرية المؤامرة، فإن عام 2010 فى السودان كان عاما ساخنا على كل المستويات المحلية فى الداخل السودانى وفى كل دول العالم والأمم المتحدة للتجهيز والإعداد لتقسيم السودان. والمثير أن الاستفتاء على ذلك كان فى 9 يناير 2011، أى مع بداية الانتفاضات فى الدول العربية. إذ كانت تونس قد بدأت، وتبعتها مصر، ثم ليبيا. وكانت مراسم الاحتفال الدولية فى جوبا يوم 9 يوليو من نفس العام وبمباركة كل دول العالم، وعلى رأسها قيادات السودانين الشمالى والجنوبى. لا داعى لتقديم النصائح الساذجة والعقيمة، لأن كل مجتمع له تجربته المختلفة من جهة، والمرتبطة بظروفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسة من جهة أخرى. كل ما هو مطلوب، دعم شباب السودان فى انتفاضته ضد الاستبداد والتخلف والرجعية والظلامية. المطلوب مواجهة التعتيم والتضليل والتزييف الإعلامى على ما يجرى فى السودان وضد شبابه المنتفض، وكشف وفضح تصريحات وممارسات ليس فقط التنظيمات الدينية المتطرفة مثل الإخوان وحزب التحرير الإسلامى وشيوخ التمييز العرقى والطائفى، بل وأيضا القوى الإقليمية والدولية التى تستعد للقفز على انتفاضة الشباب فى أكبر بلد فى المنطقة يضم ثروة عرقية ودينية وثقافية متنوعة.