ستسألنى: وما الذى ذهب بك إلى إثيوبيا؟ سأقول لك إننى ذهبت متطوعًا -باعتبارى صيدلانيًّا- مع هيئة طبيّة خيريّة تقوم بتقديم خدمات علاجيّة مجانيّة لغير القادرين فى الدول النامية. حسنا. هذا هو السبب الذى ألقى بى فى غياهب الأحراش الإفريقية لعشرة أيام شاهدت فيها من الغرائب ما يستحق حقًا أن يسجّل فى هذه المقالات! قصة 650 ألف طفل من أيتام «الإيدز» متوسط السن منخفض جدا ويصل إلى 57 سنة فقط.. والإثيوبيون منظمون للغاية فى صرف الدواء وصل باقى أعضاء الفريق الطبى، وصار علينا أن نعمل. كان معظم أعضاء الفريق من أمريكا وكندا، مع طبيبة من بريطانيا، و4 من مصر. الأعمار تتراوح بين نيّف وعشرين ونيّف وستين! وعلى الطريقة الأمريكية، كان الجميع ينادون بعضهم بعضا بالاسم مجردا بدون ألقاب مهما كان العمر! لكنى لم أستطع أن أستسيغ مع ذلك أن أنادى طبيبة تقترب من السبعين باسمها مجردا، لذا كنت الوحيد الذى ظلّ يستخدم الألقاب طوال الوقت! انقسمنا إلى عدة فرق. كنا فى كل يوم نذهب إلى إحدى دور المسنين أو دور الأيتام أو ملاجئ، الذين هم بلا مأوى. يتم إفراغ ما تيسر من غرف لتحويلها إلى أماكن مؤقتة للكشف ومكان آخر لوضع الأدوية وعمل صيدلية بدائية لصرف الأدوية. وبمعاونة بعض الإثيوبيين من طلبة الطب أو التمريض، والذين تطوعوا بالترجمة بين الإنجليزية والأمهرية، يتم تنظيم الناس وتوجيههم إلى الطبيب الذى يتناسب تخصصه مع الشكوى، ثم مصاحبتهم للترجمة بين المريض والطبيب، ثم توجيههم إلى الصيدلية والترجمة مرة أخرى لشرح طريقة استخدام الدواء. وعلى الرغم من خبرتى السابقة -التى لا بأس بها أبدا- فى قراءة وصرف الروشتات الطبية، فإننى فوجئت بأننى أجد صعوبة كبيرة فى قراءة الروشتات الموجهة إلىّ، حتى إننى كنت أضطر إلى اللجوء كثيرا إلى زملاء المهنة الكنديين للاستفسار. بداية الخطوط السيئة «هى هى»، فليست خطوط الأطباء فى أمريكا بأفضل من خطوط الأطباء المصريين، ويبدو أن هناك مادة للخط السيئ تدرس فى كليات الطب على مستوى عالمى! لكن كانت الروشتة تحتوى على أسماء تجارية كثيرة لأدوية لا نعرفها فى مصر، ومن ناحية أخرى فقد كانت طريقة الاستعمال تكتب فى الروشتة باستخدام اختصارات لاتينية كنا قد درسناها فى السنة الأولى فى الكلية، ولما كنا لم نستخدمها إطلاقا فقد تبخرت تماما، ولم يكن قد تبقى فى ذاكرتى منها سوى «b.i.d» التى تعنى مرتين يوميا، و«t.i.d» التى تعنى ثلاث مرات يوميا! المشكلة الثالثة هى أن الأطباء كانوا يمزجون بين هذه الاختصارات اللاتينية واختصارات أخرى باللغة الإنجليزية يبدو أنها شائعة فى أمريكا ولا أعرفها أيضا. لذا فبعد فترة من الفشل فى قراءة الروشتات، تركت مهمة صرف الروشتة للزملاء وتخصصت فى مسألة إيصال معلومات استخدام الدواء إلى المريض عبر المترجم. الأدوية فى الغرب تأتى فى علب كبيرة تحتوى على كمية من الأقراص أو الكبسولات تتراوح بين مئة وألف! وليس فى شرائط مغلفة فى علب أنيقة كما نحن معتادون. يحدد الطبيب مدة العلاج باليوم ويحسب الصيدلى عدد الأقراص التى ستستخدم فى فترة العلاج ويتم صرف كمية الدواء المطلوبة بالقرص. لا قرص ناقص أو زائد. بالتالى يحصل المريض على الكم الصحيح من الدواء بالضبط فلا يفرط فى استخدام دواء لا فائدة منه ولا يأخذ كمية أقل لا تشفى فتستدعى العودة للطبيب. وهناك قيود صارمة على عملية صرف الدواء، فلا دواء بدون روشتة إلا أدوية قليلة جدا، وليس كالفوضى العارمة السائدة عندنا، حيث إن أى شخص يشترى أى دواء بناء على نصيحة الزميل المجرِّب أو الجارة التى استخدمت هذا الدواء و«ريَّحها قوى». كان النظام كالآتى: قراءة الروشتة وحساب عدد الأقراص/ الكبسولات/ الزجاجات المطلوبة وتعبئتها فى أكياس صغيرة، ثم فك شفرة الاستعمال وكتابته بإنجليزية واضحة على قطعة ستيكر تلصق على كيس كل دواء، ثم توليت أنا المرحلة الأخيرة وهى شرح الاستعمال والرد على الاستفسارات من خلال المترجم. بعد فترة من صرف الروشتات خطر لى أن أتأكد أن المريض فعلا مستوعب لطريقة الاستخدام، فبعد أن انتهى المترجم من الشرح وكاد المريض يذهب، طلبت من المترجم أن يطلب منه أن يعيد عليه طريقة الاستخدام، وكما توقعت ظهر أنه لم يتذكر شيئا! ربما لا يكون من الصعب أن تتذكر أن القرص الأحمر يؤخذ مرة واحدة يوميا وأن الأصفر يؤخذ ثلاث مرات بعد الأكل، لكن بعض الناس يجدون صعوبة فى ذلك، خصوصا مع انعدام التعليم و-أحيانا- انخفاض نسبة الذكاء بسبب سوء التغذية المفرط. قمنا بشرح الاستعمال مرة ثانية وطلبت منه إعادة ترديدها ففشل ثانية، وفى المرة الثالثة فشل أيضا. هنا كان لا بد من تغيير النظام. قررت العودة إلى النظام الذى نتبعه فى مصر مع غير المتعلمين، بوضع شرطة واحدة بالقلم الجاف على العلبة إذا كان القرص يؤخذ مرة واحدة يوميا، وشرطتين إذا كان يؤخذ مرتين، وهكذا. حاولت إقناع الصيادلة بضرورة كتابة طريقة الاستعمال بهذه الطريقة المضمونة على أكياس الدواء، لكنهم لم يقتنعوا، فهى مخالفة جسيمة فى عرف المهنة لديهم أن يخرج الدواء إلى المريض بدون أن يكتب عليه بإنجليزية واضحة طريقة الاستعمال بالتفصيل، وهم معتادون على كتابة الاستعمال بطريقة مفرطة فى استخدام الكلمات دون داعٍ فى رأيى! فما يمكن أن يكتب عليه «قرص ثلاث مرات» يكتبونه هم بصيغة تقترب من شىء كهذا: «خذ قرصا واحدا ثلاث مرات كل يوم فى الصباح والظهر والليل». هذه هى قوانين صرف الأدوية فى بلادهم. وهكذا تم الاتفاق فى النهاية على أن لا نخل بالقوانين وأن نراعى ظروف المرضى فاستخدمنا النظامين فى نفس الوقت. ثم أثبتت طريقة استخدام «الشُّرَط» المصرية نجاعتها وبدأ الناس يفهمون الاستخدام، وهكذا شعرت أخيرا أننى ذو فائدة كصيدلى من العالم النامى يمتلك خبرات معينة لا يمتلكها صيادلة أمريكا وكندا! كانت الأوضاع فى الملاجئ ودور المسنين التى عملنا فيها فى غاية المأساوية. الناس يعانون من العوز إلى كل شىء. لا توجد مياه للشرب ولا للتنظيف. الطعام شحيح جدا. يسكنون فى عشش من الصفيح الصدئ الذى لا يقى من برد ولا من مطر. الرعاية الطبية شبه معدومة لدرجة أن أى مرض بسيط يمكن أن يتفاقم إلى حد مُهدِّد للحياة. هناك انتشار كبير للجرب وفطريات الجلد. مع الأسف لم تكن لدينا أدوية للجرب ولا للفطريات، وحين بحثنا عنها فى الصيدليات المحلية لم تكن متوفرة. ثم هناك الإيدز. يقدر عدد الأشخاص المصابين بالإيدز فى إثيوبيا بنحو مليون شخص، يموت منهم 67 ألفا جراء المرض سنويا وفق تقديرات 2007، ولعل الرقم قد صار أكبر بكثير الآن (تذكر بعض المصادر أن عدد المصابين بالمرض نحو مليونى شخص). علاج الإيدز مكلف جدا وغير متوفر، لذا لا يلقى هؤلاء المرضى أى رعاية فى الغالب، كما أن الإيدز مسؤول عن معظم أمراض الجلد الفطرية المنتشرة هنا. يقدر عدد الأطفال الذين صاروا يتامى بسبب هذا المرض بنحو 650 ألف طفل. متوسط العمر فى البلاد يصل إلى 57 عاما (رقم منخفض جدا). هناك 12 ألف طفل شوارع فى أديس أبابا وحدها. هناك تقارير حديثة تحذر من اقتراب شبح مجاعة من البلد بسبب التناقص المستمر فى معدل الأمطار فى السنين الماضية وموجات الجفاف. عدد المشردين الذين بلا مأوى فى الشوارع كبير جدا، إذ تقدرهم مؤسسة «اليونيسيف» بمئة ألف فى أديس أبابا وحدها، ونحو 600 ألف على مستوى إثيوبيا. الحقيقة أن الفقراء فى مصر فى غاية الترف إذا قارناهم بفقراء إثيوبيا! ورغم كل هذه الأوضاع المأساوية، وحالة الفقر المدقع، وسوء التغذية الحقيقى، فإننى وجدت -فى تعاملى معهم فى تلك المستوصفات البدائية التى ارتجلناها- أن الناس لطيفو المعشر وقنوعون ويستجيبون للنظام، وهو ما يتناقض تماما مع خبراتى السابقة فى الأمور المماثلة فى مصر! كانت لى خبرة مسبقة فى العمل الطبى الخيرى فى مصر، والذى يتم توزيع الأدوية فيه مجانا، كما عملت لنحو سنتين فى مركز طبى حكومى من النوع الذى يتم الكشف فيه بجنيه واحد ثم يتم صرف الأدوية مجانا. كنت أعانى الأمرَّين مع المرضى. أى شىء يوزع مجانا فى مصر يتسبب فى مشكلات لا حصر لها. بغض النظر عن التزاحم والتكالب ومحاولة الحصول على أكبر كم من الدواء، كان المرضى دائما ما يدّعون أمراضا ليست فيهم ليأخذوا أدويتها! أتذكر رجلا كان يتردد علىّ فى صيدلية المركز الطبى باستمرار ويظل يلحّ فى طلب علاجات عديدة ملصقا أمراض الدنيا والآخرة فى زوجته المقيمة فى الصعيد. فى مرة أتى طالبا دواء للإسهال لزوجته. سألته: بتقول مراتك فى الصعيد عندها إسهال؟ آه.. إسهال جامد. آخر مرة شفت مراتك إمتى؟ من ثلاثة أشهر.. بقى لها ثلاثة أشهر عندها إسهال؟ آه.. ممممممممممم.. وعندها إمساك كمان؟ آه عندها إمساك.. عندها إسهال وإمساك فى نفس الوقت؟! هه؟ آه! ثلاثة أشهر من الإسهال كانت كفيلة بجعلها تصاب بصدمة جفاف، ثم هل يعقل أن يكون لديها إسهال وإمساك فى نفس الوقت؟ لم يفهم الفخ الذى نصبته له. بالطبع لا تعانى زوجته من شىء. هو يريد أن يأخذ الأدوية لتحويشها فى البيت أو لبيعها، فهى ببلاش وأبو بلاش كتّر منه. سلوك مؤسف ما انفككنا نعانى منه فى مصر. لكن ما أعتقد أنه يخفف، إلى حد ما، من حدة أوضاع الفقراء المتردية فى إثيوبيا هو جمال الطبيعة. إن وضعك المأساوى وأنت تجلس على الحشائش أسفل شجرة فى إثيوبيا، أمر يختلف حتمًا عن وضعك المأساوى فى المناطق العشوائية المكدسة فى مصر، حيث لا ترى عيناك سوى عواميد الأسمنت الرمادية وحوائط الطوب الأحمر غير المبيضة. أن تكون معدما فى جو نقى ومعتدل دائما، يختلف عن أن تكون كذلك وأنت تستنشق كل يوم أطنانا من الملوثات والأتربة. ثم إن توزيع السكان على مساحة كبيرة من الأرض يخلق حالة من البراح المريح للأعصاب، بعكس حالة الزحام والتكدس التى نعانى منها فى مصر، والتى تؤدى إلى انفلات الأعصاب. لعل هذا ما يجعل نفوس الناس، رغم الأوضاع المتردية، أكثر هدوءا وتقبلا ورضا.