وصل باقي أعضاء الفريق الطبي، وصار علينا أن نعمل. كان معظم أعضاء الفريق من أمريكا وكندا، مع طبيبة من بريطانيا، و4 من مصر، الأعمار تتراوح بين نيف وعشرين ونيف وستين. وعلى الطريقة الأمريكية، كان الجميع ينادون بعضهم بعضا بالاسم مجردا دون ألقاب مهما كان العمر، لكني لم أستطع أن أستسيغ مع ذلك أن أنادي طبيبة تقترب من السبعين باسمها مجردا، لذا كنت الوحيد الذي ظلّ يستخدم الألقاب طوال الوقت. انقسمنا إلى عدة فرق، كنا في كل يوم نذهب إلى إحدى دور المسنين أو دور الأيتام أو ملاجئ الذين بلا مأوى، يتم إفراغ ما تيسر من غرف لتحويلها إلى أماكن مؤقتة للكشف ومكان آخر لوضع الأدوية وعمل صيدلية بدائية لصرف الأدوية. وبمعاونة بعض الإثيوبيين من طلبة الطب أو التمريض، والذين تطوعوا بالترجمة بين الإنجليزية والأمهرية، يتم تنظيم الناس وتوجيههم إلى الطبيب الذي يتناسب تخصصه مع الشكوى، ثم مصاحبتهم للترجمة بين المريض والطبيب، ثم توجيههم إلى الصيدلية والترجمة مرة أخرى لشرح طريقة استخدام الدواء. وبالرغم من خبرتي السابقة -التي لا بأس بها أبدا- في قراءة وصرف الروشتات الطبية، فإنني فوجئت بأنني أجد صعوبة كبيرة في قراءة الروشتات الموجهة إليّ، حتى أنني كنت أضطر إلى اللجوء كثيرا إلى زملاء المهنة الكنديين للاستفسار. بداية الخطوط السيئة "هي هي"، فليست خطوط الأطباء في أمريكا بأفضل من خطوط الأطباء المصريين، ويبدو أن هناك مادة للخط السيئ تدًّرس في كليات الطب على مستوى عالمي! لكن كانت الروشتة تحتوي على أسماء تجارية كثيرة لأدوية لا نعرفها في مصر. ومن ناحية أخرى فقد كانت طريقة الاستعمال تكتب في الروشتة باستخدام اختصارات لاتينية كنا قد درسناها في السنة الأولى في الكلية، ولما كنا لم نستخدمها إطلاقا فقد تبخرت تماما، ولم يكن قد تبقى في ذاكرتي منها سوى b.i.d التي تعني مرتين يوميا، وt.i.d التي تعني ثلاث مرات يوميا.. المشكلة الثالثة هي أن الأطباء كانوا يمزجون بين هذه الاختصارات اللاتينية واختصارات أخرى باللغة الإنجليزية يبدو أنها شائعة في أمريكا ولا أعرفها أيضا. لذا فبعد فترة من الفشل في قراءة الروشتات، تركت مهمة صرف الروشتة للزملاء وتخصصت في مسألة إيصال معلومات استخدام الدواء إلى المريض عبر المترجم. الأدوية في الغرب تأتي في علب كبيرة تحتوي على كمية من الأقراص أو الكبسولات تتراوح بين مائة وألف، وليس في شرائط مغلفة في علب أنيقة كما نحن معتادون. يحدد الطبيب مدة العلاج باليوم ويحسب الصيدلي عدد الأقراص التي ستستخدم في فترة العلاج ويتم صرف كمية الدواء المطلوبة بالقرص، لا قرص ناقص أو زائد، بالتالي يحصل المريض على الكم الصحيح من الدواء بالضبط فلا يفرّط في استخدام دواء لا فائدة منه ولا يأخذ كمية أقل لا تشفي فتستدعي العودة للطبيب. وهناك قيود صارمة على عملية صرف الدواء، فلا دواء دون روشتة إلا أدوية قليلة جدا، وليس كالفوضى العارمة السائدة عندنا بحيث إن أي شخص يشتري أي دواء بناء على نصيحة الزميل المجرّب أو الجارة التي استخدمت هذا الدواء و"ريّحها قوي". كان النظام كالآتي: قراءة الروشتة وحساب عدد الأقراص/ الكبسولات/ الزجاجات المطلوبة وتعبئتها في أكياس صغيرة، ثم فك شفرة الاستعمال وكتابته بإنجليزية واضحة على قطعة ستيكر تلصق على كيس كل دواء، ثم توليت أنا المرحلة الأخيرة وهي شرح الاستعمال والرد على الاستفسارات من خلال المترجم. بعد فترة من صرف الروشتات خطر لي أن أتأكد أن المريض فعلا مستوعب لطريقة الاستخدام، فبعد أن انتهى المترجم من الشرح وكاد المريض يذهب طلبت من المترجم أن يطلب منه أن يعيد عليه طريقة الاستخدام، وكما توقعت ظهر أنه لم يتذكر شيئا! ربما لا يكون من الصعب أن تتذكر أن القرص الأحمر يؤخذ مرة واحدة يوميا وأن الأصفر يؤخذ ثلاث مرات بعد الأكل، لكن بعض الناس يجدون صعوبة في ذلك، خصوصا مع انعدام التعليم، وأحيانا انخفاض نسبة الذكاء بسبب سوء التغذية المفرط. قمنا بشرح الاستعمال مرة ثانية وطلبت منه إعادة ترديدها ففشل ثانية، وفي المرة الثالثة فشل أيضا، هنا كان لا بد من تغيير النظام. قررت العودة إلى النظام الذي نتبعه في مصر مع غير المتعلمين، بوضع شرطة واحدة بالقلم الجاف على العلبة إذا كان القرص يؤخذ مرة واحدة يوميا، وشرطتين إذا كان يؤخذ مرتين.. وهكذا. حاولت إقناع الصيادلة بضرورة كتابة طريقة الاستعمال بهذه الطريقة المضمونة على أكياس الدواء، لكنهم لم يقتنعوا، فهي مخالفة جسيمة في عرف المهنة لديهم أن يخرج الدواء إلى المريض دون أن يكتب عليه بإنجليزية واضحة طريقة الاستعمال بالتفصيل، وهم معتادون على كتابة الاستعمال بطريقة مفرطة في استخدام الكلمات دون داعٍ في رأيي! فما يمكن أن يكتب عليه "قرص ثلاث مرات" يكتبونه هم بصيغة تقترب من شيء كهذا: "خذ قرصا واحدا ثلاث مرات كل يوم في الصباح والظهر والليل"؛ هذه هي قوانين صرف الأدوية في بلادهم، وهكذا تم الاتفاق في النهاية على ألا نخلّ بالقوانين وأن نراعي ظروف المرضى فاستخدمنا النظامين في نفس الوقت. ثم أثبتت طريقة استخدام "الشُرَط" المصرية نجاعتها وبدأ الناس يفهمون الاستخدام، وهكذا شعرت أخيرا أنني ذو فائدة كصيدلي من العالم النامي، يمتلك خبرات معينة لا يمتلكها صيادلة أمريكا وكندا.
يُتبع.. الحلقات السابقة: د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (1) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (2) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (3) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (4) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (5) د. ميشيل حنا يكتب.. تحياتي من أديس أبابا (6) أديس أبابا 7 * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: