أعرف وأثق فى الدوافع الطيبة لبعض (وليس كل) الذين يخرجون علينا هذه الأيام بتحذيرات مبهمة قد تأخذ أحيانا صورة النواهى والمواعظ المدرسية من نوع «اغسل يديك قبل الأكل وبعده»، فيقولون لك مثلا «حذار من إقصاء أو استئصال أى فصيل»، أو أن «المصالحة» ضرورة وإلا وقعت البلاد فى حرب أهلية.. ثم يسكتون ولا ينبثون بعد ذلك ببنت شفه، ما يرجح أن الإخوة الطيبين هؤلاء (دعك من المأجورين) ربما يعتبرون هذه العبارات والكلمات المبهمة المعدومة الاتصال بسياق ومعطيات واقع شديد الخطورة، كافية لاستكمال مظاهر التأنق و«الشياكة» السياسية فحسب!! ومع ذلك، ورغم أن عبد الله الفقير تكلم وكتب عن هذه «الموضة» وتلك الهرتلة اللغوية بدل المرة مئة على الأقل، فإننى لست أرى أى بأس من التكرار الذى غالبا ما يفيد الشطار وإن كان مستحيلا طبعا أن يغير فى عقل الحمار.. لقد كتبت هنا يومى 13 و14 من الشهر الماضى فى هذا الموضوع نفسه، وكان مما قلته: إنه «.. لا مجال لحل وسط بين أن نتقدم أو نتأخر، ولا مصالحة مع مشروع رهيب وشرير توهم أصحابه أن بإمكانهم نشل هذا الوطن من نفسه ومن هويته وحضارته، وأخذهم الجنون الإجرامى إلى حد الظن بسهولة تنفيذ خطة «التمكين» من مجتمع المصريين ودولتهم، تمهيدا لتفكيكهما وإعادة هندستهما بأدوات البطلان والزور والكذب على مقاس أشد الأفكار والهواجس العقلية خبلا وضررا، بحيث لا تعود مصر التى عرفتها الدنيا مهدا للحضارة ومنارة للقيم السامية النبيلة، وإنما ساحة خراب وبؤس مادى وعقلى وروحى تشغى بشتى الملوثات، من القمع والقهر والاستبداد والاستغلال، وحتى الطائفية البغيضة التى صنعوا خلطتها المسمومة (راجع دستورهم المشؤوم) على نحو يجعل وسخها وشرورها عابرة لكل الحدود، فلا تطال فحسب مواطنينا المسيحيين، وإنما تميز وتباعد وتضرب بالكراهية والحقد الأسود صفوف المواطنين المسلمين أيضا. ولعل الجريمة البشعة وغير المسبوقة التى شهدتها قرية «زاوية مسلم» قبل أسابيع قليلة من سقوط حكم عصابة الإخوان، فيها ما يكفى من النذر المخيفة والإشارات المرعبة إلى نوع وحجم التهديد الخطير لوحدة وتماسك نسيجنا الوطنى إذا ما طالت رقدة جماعة الشر وأتباعها وحلفائها القتلة فوق قلب البلد أكثر من عام الجمر الذى أنهاه المصريون بخلع «ذراع» الجماعة من القصر الرئاسى. وما دام الكلام قد تدحرج بنا إلى سيرة شيطان الطائفية الذى استحضره الأشرار للإجهاز على هذا الوطن، بل والأمة العربية بأسرها وإغراق شعوبها فى نزاعات وحروب طائفية مدمرة تأكل الأخضر واليابس وتكرس الكيان الصهيونى قوة مهيمنة وحيدة (هذا هو سر دعم الكفيل الأمريكى لهم) وما دام هذا الشيطان قد رأيناه فعلا بأم عيوننا وهو يبدأ عربداته، فإن الواجب والضمير يحتمان على كل صاحب بصر وبصيرة أن يرفع الصوت محذرا من استغلال ثرثرات «المصالحة» و«لمّ الشمل» لإشاعة نوع من العمى العقلى يفتح باب الاستجابة لابتزاز مارسته وما زالت تمارسه بعض جماعات الظلام التى قفزت فى آخر لحظة ولأسباب انتهازية بحتة، من مركب «الإخوان» الغارق. وأخيرا أختم، بأنه لا وحدة ولا تصالح إلا على أصول تحفظ المصالح العليا للبلد، وعلى أسس ومبادئ مستقرة تعرفها وتقرها الدنيا كلها، فليس من الديمقراطية فى شىء الركوع للفاشية وتقنين خداع الناس واستغلال بؤسهم وشراء واستلاب ضمائرهم، وإنما الديمقراطية الحقة لا بد من حمايتها بروادع دستورية وقانونية تضمن أن لا تستخدم آلياتها سلما تصعد عليه أشد القوى عداء لجوهرها وقيمها النبيلة، وأكثرها تهورا واستعدادا لإقصاء ومصادرة كل تنوعات المجتمع وسحق مظاهر ثرائه وتعدده. ولا أستطيع أن أنهى هذه السطور من دون أن أسأل العميان المتحزلقين الذين يهلفطون الآن بشعارات «لمّ الشمل»: دلونى على نظام ديمقراطى رشيد فى هذا العالم يسمح بفرز وتصنيف الناس على أساس طائفى، ويفتح باب الحكم أمام جماعات تختلس التفويض الإلهى وتجهر بالعداء الصريح للحرية وقيم التسامح والمساواة بين البشر؟ هل مسموح فى بلدان الغرب التى تلبس بعض حكوماتها الآن رداء النفاق، أن يسرح ويمرح النازيون والعنصريون الصرحاء براحتهم (يوجد طبعا جماعات وأحزاب من هذا النوع، لكنها مضطرة للتخفى) فى أبنية الحكم وأركان الدولة بحجة «عدم الإقصاء؟!». هذا ما سطرته من قبل، وقد اضطررت لتكراره اليوم.. ولست فى حاجة لإضافة شىء عليه سوى القول صراحة بأن «الإقصاء والاستئصال» ضروريان ويفرضهما واقع مرير كابده الناس فعلا، غير أنهما يجب أن يستهدفا فقط «المشروع الإخوانى» الفاشى وليس البشر المؤمنين به، فهم أحرار ومن حقهم التمتع بالحق فى اعتناق عقيدة «التخلف» والإجرام، أما الذى ليس من حقهم فهو محاولة فرض عقائدهم المنحرفة والمتوحشة على خلق الله فى هذا البلد.