ختمتُ أمس بإشارة عابرة إلى المخاطر العظمى التى قد تنجم عن خفة البعض واستسهالهم غير المسؤول تزيين صورتهم (أو ما يظنونه زينة) بثرثرات سطحية وفارغة عما يسمى «لمّ الشمل» واستعادة وحدة لم تحدث أبدًا ولا يجب أن تحدث أصلًا بين الجانى والضحية، لا سيما أن الضحايا هم شعب بأكمله تقريبًا ومعه دولته العتيدة الحديثة التى بناها بالعرق والدم.. فأما الجانى فهو مجرد «جماعة» شريرة مغلقة العقل على عقيدة فاشية مظلمة وجهولة ومسرفة فى الجلافة والتطرف والأنانية، وهى على مدى عمرها (الذى هو عمر تعثرنا الطويل فى المشى حتى النهاية على طريق التطور) تصد وتحصن نفسها وتنظيمها العصاباتى المصمت والمحكم، ضد تأثيرات التحضر والعصرنة. واليوم أواصل وأكرر أن الفرق هائل بين «وحدة وطنية» قلت أمس إنها السبيل الوحيد لإرساء دعائم المجتمع الجديد القائم على قيم الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة، والذى من أجله ثار المصريون، وضحوا بأرواح أجمل وأنبل شبابهم، وبين هذه الزجليات الهابطة والغناوى التافهة المطالبة بإعادة إنتاج أسوأ وأبشع موروثات الماضى القريب وكأن لا شىء حدث فى الثلاثين من يونيو عندما خرجت مصر كلها لكى تنفذ حكم الشعب بإسقاط وإنهاء مشروع الطائفية والفاشية والخراب المستعجل، إلى الأبد. هنا لا مجال لحل وسط بين أن نتقدم أو نتأخر، ولا مصالحة مع مشروع رهيب وشرير توهم أصحابه أن بإمكانهم نشل هذا الوطن من نفسه ومن هويته وحضارته، وأخذهم الجنون الإجرامى إلى حد الظن بسهولة تنفيذ خطة «التمكين» من مجتمع المصريين ودولتهم تمهيدًا لتفكيكهما وإعادة هندستهما بأدوات البطلان والزور والكذب، على مقاس أشد الأفكار والهواجس العقلية خبلًا وضررًا، بحيث لا تعود مصر التى عرفتها الدنيا مهدًا للحضارة ومنارة للقيم السامية النبيلة، إنما ساحة خراب وبؤس مادى وعقلى وروحى تشغى بشتى الملوثات، من القمع والقهر والاستبداد والاستغلال، وحتى الطائفية البغيضة التى صنعوا خلطتها المسمومة (راجع دستورهم المشؤوم) على نحو يجعل وسخها وشرورها عابرة لكل الحدود، فلا تطال فحسب مواطنينا المسيحيين، إنما تميز وتباعد وتضرب بالكراهية والحقد الأسود صفوف المواطنين المسلمين أيضا.. ولعل الجريمة البشعة وغير المسبوقة التى شهدتها قرية «زاوية مسلم» قبل أسابيع، فيها ما يكفى من النذر المخيفة والإشارات المرعبة إلى نوع وحجم التهديد الخطير لوحدة وتماسك نسيجنا الوطنى إذا ما طالت رقدة جماعة الشر وأتباعها وحلفائها القتلة فوق قلب البلد أكثر من عام الجمر الذى أنهاه المصريون بخلع «ذراع» الجماعة من قصر الحكم. وما دام الكلام تدحرج بنا إلى سيرة شيطان الطائفية الذى استحضره الأشرار للإجهاز على هذا الوطن، بل والأمة العربية بأثرها وإغراق شعوبها فى نزاعات وحروب طائفية مدمرة تأكل الأخضر واليابس وتكرس الكيان الصهيونى قوة مهيمنة وحيدة (هذا هو سر دعم الكفيل الأمريكى لهم) وما دام هذا الشيطان رأيناه فعلا بأم عيوننا وهو يبدأ عربداته، فإن الواجب والضمير يحتم على كل صاحب بصر وبصيرة أن يرفع الصوت محذرًا من استغلال ثرثرات «المصالحة» و«لمّ الشمل» لإشاعة نوع من العمى العقلى يفتح باب الاستجابة لابتزاز مارسته وما زالت تمارسه بعض جماعات الظلام التى قفزت فى آخر لحظة ولأسباب انتهازية بحتة، من مركب «الإخوان» الغارق. وللأسف فقد ظهرت آثار هذا الابتزاز والعمى واضحة فى بنود الإعلان الدستورى المؤقت، إذ جرى نقل حرفى لعبارات وصياغات جاهلة بقدر ما هى طائفية من الدستور الإخوانى الساقط إلى صدارة الإعلان المذكور (البند الأول) كما استمر رفع الحظر عن الأحزاب التى تخلط السياسة بالدين وتنصب وتكذب على خلق الله باسم الإسلام! وأخيرًا أختم، بأنه لا وحدة ولا تصالح إلا على أصول تحفظ المصالح العليا للبلد، وعلى أسس ومبادئ مستقرة تعرفها وتقرها الدنيا كلها، فليس من الديمقراطية فى شىء الركوع للفاشية وتقنين خداع الناس واستغلال بؤسهم وشراء واستلاب ضمائرهم، إنما الديمقراطية الحقة لا بد من حمايتها بروادع دستورية وقانونية تضمن أن لا تستخدم آلياتها سلمًا تصعد عليه أشد القوى نفورًا وعداءً لجوهرها وقيمها النبيلة، وأكثرها تهورًا واستعدادًا لإقصاء ومصادرة كل تنوعات المجتمع وسحق مظاهر ثرائه وتعدده. ولا أستطيع أن أنهى هذه السطور من دون أن أسأل العميان المتحزلقين الذين يهلفطون الآن بشعارات «لم الشمل»: دلونى على نظام ديمقراطى رشيد فى هذه الدنيا الواسعة يسمح بفرز وتصنيف الناس على أساس طائفى، ويفتح باب الحكم أمام جماعات تختلس التفويض الإلهى وتجهر بالعداء الصريح للحرية وقيم التسامح والمساواة بين البشر.. هل مسموح فى بلدان الغرب التى تلبس بعض حكومتها الآن رداء النفاق، أن يسرح ويمرح النازيون والعنصريون الصرحاء براحتهم (توجد طبعا جماعات وأحزاب من هذا النوع، لكنها مضطرة للتخفى) فى أبنية الحكم وأركان الدولة بحجة «عدم الإقصاء»؟!