رغم مأساوية الأحداث، التى مرت بها مصر بعد سقوط مرسى، فإنها تحمل نتائج ودروسا عظيمة، وتقدم لمن لم يفهم، تفسيرات واضحة غير ملتبسة، وتضع النقاط على الحروف لكى يقرأها حزب المتعاطفين والمستهبلين، قالت الأزمة بكل وضوح: هذا نتيجة سوء الاختيار، وهذه عاقبة عصر الليمون. فى روايته العظيمة «ميرامار»، يقول عامر وجدى، شاهد الأحداث الخبير، متحدثا إلى زهرة، مطمع الجميع، وضحيتهم أيضا: «إن من عرف الذين لا يصلحون له، فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشود»، وليس هناك مثل الحالة المصرية التى انتهت بسقوط مرسى فى قدرتها على الكشف بشكل قاطع عن الذين لا يصلحون، أولئك الذين وضعوا المصريين فى اختيار واضح، الجماعة مقابل الوطن، شكرا لغبائهم، فقد أصبح الطريق واضحا، فاختار الملايين الوطن ثم الوطن ثم الوطن. لم يعد ممكنا الآن، بأى حال من الأحوال، الفصل بين معظم أطياف التأسلم السياسى، لا فارق بين من اختار السياسة مثل الإخوان، وبين من اختار قتل الجنود بخسة ودناءة فى سيناء، لا أتحدث فقط عن التنسيق بين الطرفين الذى لا يحتاج إلى دليل، أو كما قال المتنبى: «وليس يصحُّ فى الأفهام شىءٌ/ إذا احتاج النهار إلى دليل». المسألة أعقد من ذلك وأعمق، هجمات سيناء كانت موجودة أيضا بنسبة أقل فى عصر مرسى (مذبحة رفح الأولى وخطف الجنود)، ولكن هدفها لم يكن الضغط عليه، وإنما تشكيل مسار آخر عنيف للتمكين، وهدم الدولة، لإنشاء الدولة البديلة الدينية، تعددت المسارات، والهدف واحد: مرسى يهدم المؤسسات تحت مظلات الشرعية والصندوق والثورة، وهم يهدمونها تحت نيران البنادق والصواريخ. لم يعد هناك مجال للشك أن الارتباط بين العنف والسياسة عضوى، وكأن ما لا يتحقق فى البرلمان، يمكن أن يتحقق على الأرض، الديمقراطية خيار تكتيكى، مجرد سلم للوصول، ولو لم تكن للإخوان فرصة للحكم بالسياسة، لما اقتربوا من الحياة الحزبية، هكذا كان وضعهم مثلا قبل 1952، فى ظل وجود أحزاب جماهيرية كبيرة مثل حزب الوفد. ورغم ذلك، ورغم كل ما كشفت عنه الأحداث، فما زال بعض الغافلين يتحدثون حتى الآن عن ردود فعل عنيفة من الجماعة، سببها ما تعرضت له من فض اعتصامات سلمية/ مسلحة، بينما أميل إلى التحليل الآخر بأن كل ذلك لم يكن إلا إشارة البدء لخطة موجودة بالفعل، تنشيط مسار العنف لهدم الدولة، بعد فشل مسار السياسة، لتحقيق نفس الهدف. لا مجال على الإطلاق للبحث عن تبريرات شرعية لهذه الحرب، الدين يجعل درء المفاسد مقدّما على جلب المصالح، ولا تفسير لما فعلوه سوى أنهم لا يعتبرون هدم الدولة أو جيشها نوعا من المفاسد، لا مجال أيضا للبحث عن تبريرات شرعية لفكرة الانتقام. لو كان هناك من يستحق استخدام رخصة الانتقام فهو رسول الإسلام الذى يفترض أنهم يؤمنون برسالته، فقد حاصروا قومه، وعذبوا أتباعه، ورفضوا أن يسمحوا له أن يعبد ربه وفق ديانته، وتحت مبدأ «لكم دينكم ولى دين»، ثم تآمروا على قتله، ودفعوه للهجرة، ورغم كل ذلك، فعندما عاد منتصرا، قال لقومه: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ورفض استخدام السيف ضد كفار حاربوه لسنوات طويلة، فكيف استحل الإخوان وجماعات الإرهاب إذن دماء مسلمين أو كنائس مسيحيين باسم الشرع والدين؟! فكرة الدمج لتيارات التأسلم السياسى نفسها أصبحت بسبب التجربة الإخوانية معلّقة فى الفراغ، ليست المشكلة فى الوسيلة، ولكنها فى الهدف الواحد، كيف يمكن أن يكون هذا التيار جزءا من دولة ديمقراطية مدنية فى حين لم يتنازل عن فكرة الدولة البديلة، سواء باستخدام السلاح أو باستخدام السياسة أو من خلال المسارين معا؟ كان الافتراض القديم هو أن السياسة ستجعل التيار يترك السلاح، ولكن ذلك لم يتحقق، عند أول أزمة خرجت الأسلحة فى الصعيد، وظهرت أعلام القاعدة، وأحرقت دور عبادة الأقباط، ليس صحيحا أن هذا التطرف نتيجة تدخل الجيش، فهم يعلمون تماما أن هذا العنف ترجمة لرفضهم للحقيقة الكبرى، وهى ثورة المصريين على حكم المتأسلمين، بعد عام واحد فقط من وجودهم فى السلطة، نتيجة فشلهم الذريع، وبسبب سقوط أقنعتهم الدينية الزائفة، ونتيجة انكشاف أكاذيبهم المتكررة. يعنى ذلك ببساطة، أن مبارك الفاسد رضخ لثورة الشعب، وتدخّل الجيش، رغم كل جبروته وسطوته، ولكن المتأسلمين، رفضوا ثورة الشعب وتدخّل الجيش، لأنهم اعتبروه ضد مشروع سماوى، أى أنهم حوّلوا الصراع السياسى إلى صراع دينى، هنا وجه الكارثة التى يمكن أن تفجر أى وطن يسمح بوجود أحزاب على أساس دينى. لم نكن فى حاجة لمذابح الإخوان لكى نستخلص هذه النتيجة، كانت الشواهد معروفة، بداية من استخدام تعبير «غزوة الصناديق» فى استفتاء مارس، مرورا بتفسير فوز الإخوان فى الانتخابات بأن المصريين مزاجهم إسلامى، وكأن مزاجهم كان بوذيا من قبل، وانتهاء بمؤتمر الصالة المغطاة، بوجود مرسى، الذى جعل المعركة بين فسطاطى الكفر والإيمان، والذى يمكن اعتباره أحد شواهد وجود خطة المواجهة العنيفة، قبل سقوط مرسى وتداعياته، وليس بعد السقوط، وفض الاعتصام كما يعتقد الكثيرون. ما حدث بعد السقوط لم يكن إلا ترجمة النص المكتوب والمطبوع، التجربة كلها كانت البرهان ولم يكن المقدمات، الحالة المصرية إجابة، لا سؤالا أو معضلة، هذه هى النهاية المنطقية لفوضى مزج الدين بالسياسة، وهذا هو حصاد المغالطة الشائعة بأن الدمج السياسى سيجعلهم يتنازلون على التمكين بالسلاح. أثار الإخوان وأنصارهم الفوضى والإرهاب عندما نزع منهم الشعب السلطة، فهل تراهم حققوا الاستقرار وحافظوا على الدولة عندما كانوا فى السلطة؟! إذا أردت دليلا جديدا أكيدا على فشل تجربة دمج تيارات التأسلم السياسى، فإن الإجابة هى «مصر».