ما يجرى فى بر مصر ومدنها وشوارعها يتابعه العالم وتترقبه واشنطن وتتابعه عن كثب وتحاول أن تتعامل معه لاحتوائه وتفادى العنف الأكثر. «جمعة الغضب» وما صاحبها من دماء ودمار وعنف وفوضى أثارت عديدا من التساؤلات والقضايا حول مصر والأيام المقبلة ومصير الإخوان، كما أن تعامل واشنطن مع الشأن المصرى ما زال موضع نقاش وانتقاد وتنبيه وتحذير. صحيفة «وول ستريت جورنال» أمس تناولت المواجهة الجارية الآن فى مصر من منظور معارضة المدنيين للمتظاهرين. ولم يتوقف بعد النقاش المحتدم حول المساعدات الأمريكية، وإن بدأت اللغة الواقعية والبراجماتية وضرورة استمرار الوقوف مع الجيش المصرى، لتكون هى اللغة الأكثر إلحاحا وتأكيدا. ولم يصدر أى تعليق أو تعقيب من البيت الأبيض أو الخارجية عن أحداث مصر أول من أمس (الجمعة)، وذكرت مصادر صحفية أن سوزان رايس، مستشار الرئيس للأمن القومى، التقت (الجمعة)، كما هو المعتاد يوميا بالرئيس أوباما وقدمت له تقريرا عن الأوضاع فى مصر وذلك قبل أن يذهب الرئيس بصحبة أسرته فى جولة بالدراجات فى جزيرة «مارتاز فينيارد» حيث يقضى إجازته. ولم يعد بالأمر الخفى أن سوزان رايس، مستشار الرئيس للأمن القومى، لها يد وبصمتها فى ما اتخذه الرئيس من قرارات وما قاله من كلمات تخص مصر فى الأيام والأسابيع الأخيرة. صحيفة «نيويورك تايمز» من جانبها سلطت الأضواء على شخصية رايس وقربها من الرئيس ودورها بشكل عام فى «توجيه دفة الأمور» فى ما يخص مصر وروسيا منذ أن تسلمت مهام منصبها فى بداية شهر يوليو الماضى. الصحيفة نفسها اهتمت فى تقريرها من القاهرة عن المواجهات الدموية أن تذكر أن من ضمن الإسلاميين الذين قتلوا فى ميدان رمسيس كان د.خالد البنا (30 عاما) حفيد مؤسس الإخوان المسلمين حسن البنا الذى قتل أيضا فى مكان قريب من الميدان عام 1949. والحديث عن الجيش المصرى والمؤسسة العسكرية المصرية لم يتوقف، خصوصا أن المطالبة بقطع المساعدات تزايدت فى الأيام الأخيرة وما زالت تتردد. إلا أن الكثير من المراقيبن والمقربين من الإدارة كرروا تلميحا وتصريحا بأن الجيش هو المؤسسة المصرية الوحيدة التى يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها، حتى فى الانتقال الديمقراطى (كما قال أكثر من مراقب). ولهذا رأينا وسمعنا وشهدنا فى اليومين الماضيين تصريحات وتقارير صحفية وإعلامية أمريكية تهتم بالإقرار والتنبيه أن علاقات وثيقة وممتدة ومتشعبة تربط بين المؤسستين العسكريتين فى البلدين. وبالتالى ليس فى مصلحة أمريكا أن تخاطر وتجازف بهذه العلاقات، وما قد تكون لها من أثار سلبية تهدد أمن واستقرار المنطقة، وأيضا مصالح أمريكا فيها. ولا أحد يريد أن يخاطر بأن يجد الجيش يفقد زمام الأمور. ونقل عن مسؤول فى الإدارة قوله: «إن العنف لا يمكن قبوله، ولكنهم يشعرون بأن مصر تواجه أزمة سيادة ووجود»، مضيفا «ورغم أن العنف غير مقبول، فإننا يمكن أن نقبل فى نهاية الأمر بهذه القرارات إذا انتهى العنف وانتهى بسرعة». ولاحظ تقرير نشرته «نيويورك تايمز» أن إدارة أوباما تفادت التهديد بقطع المساعدات العسكرية لمصر. وذكر أن الأموال المخصصة لهذا الغرض هذا العام قد تم اعتمادها، وبالتالى فإن أى خطوة تتخذ فى هذا الصدد قد لا يكون لها أثر إلا العام المقبل. ويرى المراقبون أنه لا تجب المجازفة والإسراع بقرارات رد فعل قد تكون استجابة لإلحاح سياسى ومطلب تشريعى يأتى من قيادات الكونجرس إلا أنه لا بد أن تؤخذ فى الحسبان وفى الاعتبار عواقبها على أرض الواقع وعلى التعاون الموجود وأيضا الممتد على مدى سنوات طويلة، فى ما يخص المرور عبر قناة السويس والمجال الجوى المصرى على سبيل المثال، وما لهذا التعاون الوثيق من امتيازات لا يمكن التهاون بشأنها أو المخاطرة لفقدها. هكذا تحسب الأشياء ومن ثم يتم اتخاذ هذا القرار، وقد يكون التخوف الحقيقى والقلق الأساسى هو أن تستمر المواجهة الأمنية لوقت طويل متواصل. بالنسبة إلى «البنتاجون» التى أرجأت من قبل إرسال أربعة من المقاتلات من طراز «إف 16»، فإن اتخاذ خطوات أخرى قد تكون صعبة. ونقرأ فى تقرير «نيويورك تايمز» المطول ما قاله الجنرال جيمس ماتيس، القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية: «نحن نحتاج إليهم، بالنسبة إلى قناة السويس، ونحتاج إليهم بالنسبة إلى معاهدة السلام مع إسرائيل. ونحن نحتاج إليهم بالنسبة إلى عبور الطلعات الجوية عبر مجالها الجوى. ونحن نحتاج إليهم للحرب المستمرة ضد المتطرفين المسلحين الذين يمثلون خطرا بالنسبة لانتقال مصر الديمقراطى وأيضا للمصالح الأمريكية»، ولا شك أن التهديد أو الوعيد بقطع المساعدات العسكرية قد يبدو سياسيا وإعلاميا أمرا ملفتا للأنظار وجاذبا للانتباه، إلا أنه عمليا يكاد يكون أمرا صعبا وربما مستبعدا إذا أخذ فى الاعتبار أهمية وضرورة هذه المساعدات من وجهة نظر ومصلحة الأمن القومى الأمريكى. وهذا ما قاله من قبل أكثر من مرة جاى كارنى المتحدث باسم البيت الأبيض، وهو يشير إلى أن المساعدات لمصر فى مصلحة الأمن القومى الأمريكى. ومنذ أيام قليلة حرصت جين ساكى، المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، على التأكيد بأن عمليات المتابعة والمراجعة والتقييم للمساعدات التى تتم منذ فترة تتوخى الحذر ولا تقفز إلى استنتاجات مبنية على ردود أفعال بناء على «ما حدث فى يوم واحد» حسب وصفها. وذكر برنت سكوكروفت، المستشار السابق للأمن القومى، فى عهد الرئيسين فورد وبوش، أن المساعدات السنوية لمصر لها هدف محدد وهو «تعزيز» اتفاقية السلام ما بين شريكى أمريكا المهمين فى المنطقة، وبالتالى فإن قطع المساعدات التى تقدر بمليار و300 مليون دولار يعد أمرا «قصير النظر». لأنه يقوض اتفاقية عززت السلام والاستقرار فى المنطقة، كما أن جانبا من تردد أوباما فى اتخاذ خطوة كهذه له علاقة بإسرائيل، فأمن إسرائيل لا يمكن تعزيزه بأى خطوة تتخذ قد تسبب تآكلا فى الاستقرار المصرى أو فى نفوذ أمريكا لدى مصر. ومع ما يحدث من مواجهات عنيفة ودموية فى الشارع المصرى. فإن السياسيين والأكاديميين الأمريكيين وأيضا المتخصصين فى الشأن الغربى والإسلامى وكل الذين اعتادوا المقارنات واللجوء إلى النماذج السابقة يتكرر على لسانهم كثيرا فى الأيام الأخيرة تعبير أو توصيف «سيناريو الجزائر» واحتمال تكراره فى مصر. وهذه هى الموضة و«النغمة إياها»، وللتذكرة منذ فترة وحتى الآن اعتاد الإخوان والإسلاميون فى مصر على التلويح والتهديد والوعيد ب«سوريا جديدة» فى مصر. وبما إن ما يحدث فى مصر أقلق الإسلاميين فى تونس فقد صرح راشد الغنوشى بأن «السيناريو المصرى» لن يتكرر فى تونس. هكذا نجد أنفسنا أمام التذكير أو التلويح أو التحذير أو الترهيب بالعنف واللجوء إليه وفرضه على الشعب. وأمام هذا الغلو والتطرف والاستقطاب و«هنولعها».. هل يمكن التصالح والمشاركة وضم الكل بلا إقصاء والتوافق، أم إن ما قاله ستيفن كوك المتخصص فى الشأن المصرى أكثر واقعية وصدقا وصراحة: «عندما يتحدث كل شخص فى مصر عن السياسة التى لا إقصاء فيها، فإنهم يكذبون..». ويرى كوك أن الإسلاميين ودعوتهم إلى الاستشهاد كانت تمهيدا للعنف الذى شهدناه. قائلا: «لا أعتقد أنه يمكن أن يكون أكثر وضوحا من هذا.. إنهم يطالبون ويدعون الناس إلى الموت فى سبيل قضية».. الأنظار متجهة إلى مصر وتحاول فهم الأحداث والأوضاع بشكل أصدق وأشمل وأعمق.. وهل هذا ممكن فى أجواء الاستقطاب السياسى والإعلامى.. والأخلاقى!!