لم تنجح حتى محاكمة مبارك وعصابته فى أن تنتزعنى من حالة الكآبة التى سيطرت علىّ منذ أن تم فض اعتصام التحرير بالقوة. أسئلة تملأ ذهنى، تتكرر وتلح وتزن. أسأل نفسى: هل من الممكن أن تختفى مشاعر الانتماء اللى سكنت قلوب الناس بعد الثورة؟ هل هى كانت قد سكنت فعلا؟ أم أن الحكاية كانت حالة مؤقتة واختفت ورجعت كل حاجة كما كانت، وبقى العلم فى كل بيت مجرد ذكرى؟ هل نجح الزن على الودان بكلمة «دول مش شباب 25 يناير.. دول شكل تانى» فى إعادة الحواجز القديمة لمكانها؟ ولماذا صدق الناس الكلام عن «6 أبريل»؟ واستسلموا لفكرة أن حضور دورة تدريبية هو عمالة وخيانة؟ وهل هنقضى العمود كله أسئلة؟ بالطبع لأ. هذه الأسئلة تعبر عن أننى منزعجة انزعاجا شديدا من مشاعر الترحيب، التى استقبل بها الجمهور العادى مشهد ضرب وسحل واعتقال شباب التحرير أول أيام رمضان، المشهد كله مؤلم، لكن قسوة الناس كانت مخيفة لى. أفهم أن يعتقد الناس الغلابة، خطأ واستسهالا وغلبا، أن هذه الخيام المنصوبة فى ميدان التحرير هى سبب معاناتهم. معاناتهم فى المرور، ومن غلاء الأسعار، وضعف المرتبات، ووجود مسجلين خطر يهددونهم، رغم غرابة المنطق فإننى أتفهمه، أتفهم اللا منطق الذى يحكمهم. وأرجعه إلى الميراث القديم من اعتياد عدم مواجهة الظالم الحقيقى خوفا من بطشه، والبحث عن مظلوم آخر لتعليق عليه كل الاتهامات. لا أناقش الآن هل كان الاستمرار فى الاعتصام مناسبا فى ظل كل الظروف التى أحاطت به فى الأيام الأخيرة. هذا لا يقلقنى لأننى أثق بأن الصادقين من المعتصمين قادرون على أن يراجعوا أنفسهم ويتعلموا من أخطائهم ولا ينتظرون نصائحى. أنا أناقش كيف انقلب المشهد، وتحولت المشاعر، وقست القلوب. كنت أتصور أن كل من ذاق طعم الكرامة والعزة لن يتنازل عنها أبدا. وكل من تخلص من الخوف لن يفسح له المجال ليعود أبدا. وكنت أتصور أنها بديهية ولا تحتاج لتوضيح، أن الذى وقف يصفق ويحرض على ضرب مواطن مثله، سيضرب قريبا بنفس اليد. وأن من ألقى القبض على المتظاهرين اليوم، سيلقى القبض على غيرهم، حتى ولو كانوا ماشيين جنب الحائط. ياه.. وهل سيقبل أحد أن يعود للاختباء فى الحائط؟ بعد الثورة بفترة قصيرة حكى لى سائق تاكسى أنه يعمل على سيارة صاحبها يسكن فى شارع السودان، ويذهب آخر الليل ليسلمه الإيراد ويترك السيارة فى الجراج، ويركب الميكروباص ليعود إلى بيته فى المنيب. اعتاد أن يوقفه أمين شرطة ويطلب منه إبراز تحقيق الشخصية ويسأله عن سبب مجيئه إلى هذه المنطقة البعيدة عن بيته فى هذا الوقت المتأخر فيجيب عن أسئلته بكل أدب ويدفع له الجزء الأكبر مما حصل عليه فى اليوم، وربما يدفعه كله ليتركه يمضى إلى حال سبيله، يقول إنه لم يضبط معه أى ممنوعات من قبل، وإن من يضبط معه ممنوعات يدفع مئتى جنيه على الأقل، وتؤخذ منه الممنوعات، أما هو فكان يكفيه ثلاثون جنيها أو خمسون مع «تحت أمرك يا باشا». يكمل سائق التاكسى إنه عاش فى التحرير 18 يوما لهذا السبب فقط وهو الآن مستعد لتحمل أى شىء مهما كان إلا أن يعود مرة أخرى ليوقفه أمين شرطة ويسأله إنت جاى هنا ليه؟ فيرد عليه «تحت أمرك يا باشا». أمنيتى الآن أن أقابل سائق التاكسى لأسأله هل صفقت وهتفت لمن حرر الميدان أول يوم رمضان؟ ملحوظة: لم أتمكن من كتابة هذا العمود إلا عندما عرفت أنه تم الإفراج عن كل من ألقى القبض عليهم فى ذلك اليوم إلا قليلا، قبل ذلك كنت مضربة عن العمل.