فى بداية التسعينيات حققت أمنيتى بدراسة السياسة، اعتقدت بسذاجة أن السياسة هى وسيلة الإصلاح! ولكن سريعا ما اكتشفت أن «السياسة لعبة قذرة»، فتوجهت لحركة حقوق الإنسان الناشئة النشطة المناضلة. اندمجت فى عمل مجموعات العفو الدولية. والمضحك أنه من خلال نشاطى الحقوقى، تعلمت الكثير عن عالم السياسة فى مصر! من عام 1991 وحتى 1995 عاشت مجموعاتنا مثلها مثل العديد من المنظمات الحقوقية، صراعا بين كل التيارات السياسية (الشيوعيين، والناصريين، والوفديين، والإخوان...). لم يتنافسوا على نشاط حقوقى، بل على من يسيطر؟ من يفوز فى الانتخابات؟ لم يتساءلوا: من يدافع عن ضحايا الانتهاكات؟ أدركت أنهم لا يجيدون إلا المزايدة على بعضهم البعض، والبحث عن منابر للخطابة، وتجمعات لضم أعضاء، وإضافة لافتة «حقوق الإنسان» لإنجازاتهم. أذكر عندما علق أحد كوادر الإخوان صورته للدعاية فى انتخابات حركتنا! حط بوستر له من انتخابات مجلس الشعب، ونسى يشيل جملة «الإسلام هو الحل»! يومها قعد هو وزمايله يقصوها، وأعادوا تعليق بوستر مضحك مقطوع من المنتصف، باسمه وصورته من غير الإسلام كحل! بجانب هؤلاء، الشيوعيين بانقساماتهم وخناقاتهم. كنت فى الجامعة، أحضر من الإسكندرية على فترات لأصدم فى تلك الصراعات! فى كل اجتماع (خصوصا لو فيه انتخابات)، كان شباب اليسار والشيوعيين، يهتفون ويصرخون ويتشنجون مع أو ضد، مثيرين قضايا وخناقات لا تمت للموضوع بصلة. ما يتميزون به عن الجميع هو سلوكياتهم! كان سهل علىّ حينها إصدار الأحكام، وخرجت بمنطلقات، أخذنى أعوام أن ألطف منها! اعتبرتهم شبابا يهربون من واقع اجتماعى واقتصادى، ويلقون بكل مشكلاتهم وعقدهم على كل من يختلف عنهم! لا يفهمون من اليسار والشيوعية إلا جملا عن الطبقة العاملة والكادحين والفقراء، مقولات يحتمون بها ولا يطبقونها، ولكن يجيدون التنظير والمزايدة بها. وما يعرفونه عن اليسار والحرية هو حبة سلوكيات ومظاهر، ولو ما اتبعتهاش هتلاقى نفسك متصنف برجوازى، أو يمينى، أو إخوانى.....! يتقوقعون تدريجيا فى شِلل محدودة، الأمان مع أشباهك، لكم أماكنكم وشلتكم والجيتو بتاعكم. وبالنسبة للإخوة الناصريين، فكان صوتهم عاليا، خطابيين وجدليين، لكن مثل الآخرين ساعة النشاط الحقيقى متبخرين، إلا لو ندوة فيتخانقوا على المنصة. بالنسبة للوفديين وكل من يطلق عليهم ليبراليين، فلم أتمكن من حينها ولليوم أن أكتشف ما هى علاقتهم بالليبرالية! كانوا بلا لون ولا طعم. من 1995 ركزت اهتمامى بالعمل على نشر الوعى الحقوقى وتنظيم جهود الناس للتحرك من أجل حقوقهم. وتابعت التحول فى حركتنا، بدأت ظاهرة التمويلات. تكاثرت المنظمات الحقوقية، وأهيل التراب على العمل التطوعى والنضالى، إلا النذر القليل ممن حافظوا على مصداقيتهم فى العمل الحقوقى، وحولوه إلى مزيد من الاحترافية والتخصص. وبدت ثمار التحول على حياة الكثيرين من نشطائنا، لم يترددوا فى ترك الفقراء والكادحين وراءهم، على حالهم، لكن من آن لآخر يتفضلون عليهم ببيان ولّا ندوة أو ورشة. فى 1997 حضرت ندوة حول عمل المنظمات ودار نقاش حول تركيزنا على الحقوق السياسية والمدنية، وإهمال الحقوق الاقتصادية الاجتماعية. يومها تندرت بأنهم بعد أن كانت قضيتهم سياسية نضالية مع الدولة، تحولوا وركزوا على إنجاز تطور ملحوظ فى الحقوق الاقتصادية الاجتماعية لأنفسهم، وصدروا للناس السياسة!! نحدث الناس عن الديمقراطية وتداول السلطة، ولا نعرف المؤسسات باسمها أو نشاطها، لكن تعرف بأسماء أصحابها! لا تسمع عن انتخابات أو تغيير فى الوجوه، دكاكيننا لا تقدم كشف حساباتها وبيان إنجازاتها. العاملون هم من أهل الثقة، من عشيرتنا وتنظيماتنا السياسية، ومن أهلنا (واحد على الأقل من العاملين هو من أقرباء صاحب الدكان، وغالبا هو مسؤول المال). وتستمر مسيرتنا مع الألفية الثالثة، مزيد من المنظمات. سياسيون لم ينجزوا شيئا على الأرض، ومع الوقت تواطأ معظمهم مع السلطة، ليعملوا وفق توازنات محسوبة. اتبعوا نفس الآليات التى استخدموها فى خبرتهم السياسية، فحققوا نفس الفشل! أى انتهاك للحقوق يعقبه إصدار بيان مصاغ بفذلكة، بيان سياسى، يخلو من أى تحليل حقوقى. وانشغل المناضلون بالبيانات والورش والمؤتمرات ولفّو العالم. أتت التمويلات كالسحر لتنجز ما لم تنجزه السجون! التزموا حدودهم فنالوا رضا السلطة، وتعايش الجميع. وعندما انطلقت ثورة يناير لم نتورع أن ندعى أن حركتنا ليها علاقة بها، أو أن عملنا وسط الناس هو مبعثها! رفع الناس مطالبهم وشعاراتهم، لم تكن لغتنا على ألسنتهم بعد عشرين عاما وملايين التمويلات. وبعد أكثر من عامين من الثورة، فوجئنا أننا لا نمتلك فِرق تقصى حقائق وعمل ميدانى محترفة وفنية ومحايدة لتوثق الانتهاكات، وتقدم الحقائق للناس. لكن هؤلاء ليسوا كل حركتنا، فهناك الكثير من الحقوقيين المناضلين الحقيقيين.. للحديث بقية.