يتكالب أبناء العالم الثالث والعوالم السفلية الأخرى لاقتناص جنسية دولة عظمى أو مملكة غنية لكى يتمكنوا من الحصول على فرص للعمل تحقق لهم دخولاً مرتفعة، أو لكى يتمتعوا بامتيازات معيشية وحريات ومساواة قانونية بانتمائهم إلى أوطان جديدة، تتيح لهم حياة إنسانية كريمة لا توفرها لهم أوطانهم القديمة الفقيرة أو الظالمة، لكن ما الذى يدفع مواطنًا غنيًّا من أى دولة فى العالم، متقدمة كانت أم متخلفة، إلى دفع مليون دولار للحصول على جنسية دولة تعانى اقتصاديًّا، ولا يتمتع مواطنوها بالمساواة فى الحقوق والواجبات، ولا تحترم حتى حقوق الأقليات فى ممارسة عباداتهم، ولا تمنح حصانة لحرية التعبير والحريات الاجتماعية الأخرى، ولا يوجد بها الحد المقبول من الخدمات الصحية والتعليمية وغيرهما، وترتفع بها درجات التلوث البيئى والزحام وحوادث السيارات إلى حدودها العظمى؟ لا توجد أسباب منطقية بالطبع. دارت فى عقلى تلك الأفكار عندما قرأت تصريحًا لعضو مجلس الشعب المحترم الذى يقترح قانونًا بمنح الجنسية المصرية لمن يضع فى البنك المركزى وديعة بمليون دولار يتخلى عنها للحكومة بعد سنوات قليلة. فقالت لى نفسى المتشككة: ما نوعية أولئك الأغنياء الذين يستهدفهم ذلك القانون؟ أهى دعوة رسمية للأفاقين والمغامرين وشذاذ الآفاق والهاربين من بلادهم للتخفى فى جنسية جديدة واسم وهمى جديد؟ ممكن جدا.. بفلوسهم! أهو تصريح رسمى لجميع لصوص العالم الأثرياء لكى يأخذوا وثائق سفر جديدة بأسماء يختارونها لكى يحتموا بها لدينا من الإنتربول مقابل مليون دولار؟ يا بلاش! صاحب القرش لا يتنازل عن نقوده إلا لكى يفرض شروطه على المحتاج الذى يريدها لأن الحدأة لا تلقى بالكتاكيت. فمن هو صاحب القرش، والغرض المستهدف بدعوة غريبة كتلك؟ أهم المستثمرون الصهاينة الذين يسعون لامتلاك سيناء كمواطنين مصريين لا يريدون لأحد أن يفتح فمه ويقول لهم "تلت التلاتة كام" ؟ ما الذى يمنع؟ لا بد أن تدور بعقلك تلك الأفكار خاصة عندما تعرف أن المستثمر العربى الخليجى الثرى لا يمكنه أن يحصل على جنسية دولة عربية أخرى شقيقة كمصر إلا لو تنازل عن جنسيته الأم. لأن بلاده لا تمنح مواطنيها حق امتلاك جنسية مزدوجة. هل تظن أنها محاولة بريئة، رغم الشكوك التى تحيط بها، لمحاولة النهوض بالوطن من عثراته الاقتصادية المتتالية بالفهلوة وبيع الهواء؟ هل تظن أن الأمر يندرج تحت بند النوايا الحسنة التى ربما تقود إلى التهلكة؟ لا تنفعل من فضلك، وتنفخ عروقك مدافعًا عن تلك الكوارث، كما دافعت عن مثلها من قبل، وترد قائلاً إن كندا وغيرها من البلاد يمنحون جنسياتهم لمن يستثمر أمواله لديهم فما الذى يمنع أن نفعل مثلهم؟ الرد يا سيدى أن هذا الوضع مختلف تمامًا. فتلك البلاد المتقدمة تطرح هذا النوع من حقوق الإقامة على أراضيها، بالبطاقة الخضراء، لتعمير مقاطعاتها الباردة القاحلة القليلة السكان، وهى تعلم أنها ستقدم لأولئك المهاجرين المستقبليين، فى مقابل ثرواتهم، حقوقًا وخدمات اجتماعية يفتقرون إليها هم وأبناؤهم فى بلادهم التى ينزحون منها. أما ما تعنيه فكرة بيع جنسية بلد فقير متهالك الخدمات لمن يملك ثمنها فهو يتشابه تمامًا للأسف مع ظاهرة بيع بعض مواطنينا الفقراء لبناتهن القرويات بتزويجهن لأثرياء طاعنين فى السن، والتى يتعذر وصفها بشىء آخر سوى الإجرام. البلاد المتقدمة التى تطرح جنسياتها للمستثمرين لا يحلم أبناؤها بجنسيات أخرى ينتمون إليها، ولا يتندر فقراؤها برغبتهم فى التنازل عنها للخلاص من معاناتهم. ما الذى يدفع مواطنًا أوروبيًّا لشراء جنسية بلد مأزوم حتى لو عرضوها عليه بألف يورو فقط إلا إذا كانت ستمثل له مهربًا من أزمة ما؟ أو مطمحًا لمغامرة غير قانونية قد يربح من ورائها الكثير؟ أو حلمًا تاريخيًّا أسطوريًّا بامتلاك أرض يتوهم أحقيته فى استعادتها من شعب آخر حتى ولو تطلب الأمر أن يحصل على جنسيته لتحقيق ذلك الحلم؟! كلها أسئلة من حقنا أن نطرحها خاصة وأن هناك من بيننا من يتهمون الفلسطينيين حتى هذه اللحظة بأنهم باعوا أراضيهم للصهاينة. الأهم هو أن من حقنا، بل ومن واجبنا أن نغضب صارخين فى وجه من أوقعنا حظنا السيئ فريسة لأفكارهم الخزعبلية التى لا تخلو من الغرض: لماذا لا تتمخض عقولكم ولو لمرة واحدة فقط على سبيل التغيير عن أفكار منتجة وغير مخجلة، تجعلنا نشعر بأنكم تستحقون شرف الإمساك بدفة سفينة الوطن وطرح حلول منطقية لإخراجه من متاهته؟ والله لم يكن المرحوم هرتزل، رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، ليتفتق ذهنه شخصيًّا ويفكر للصهاينة فى حلول أفضل من هذه لامتلاك أرض الغير التى يحلمون بأن الله وعدهم بها! لو صدر قانون كهذا فتوقعوا مئات الودائع الدولارية فى البنك المركزى يضعها صهاينة يرغبون فى الحصول على جنسية مصرية مزدوجة.