في أسبوع واحد تقريبًا كان "أردوغان" هو الحاضر الغائب في البرلمانين التركي والألماني على حد سواء. وما بين برلمان يُستخدم لبسط نفوذ الخليفة الجديد، وآخر يُحرض للوقوف حائلا ضد ذلك، تستخدم منابر الديمقراطية كأداة في صراعات سياسية لا تنتهي. في الثاني من يونيو الجاري وافق البرلمان الألماني على مشروع قانون يصف ما جرى للأرمن خلال الحرب العالمية الأولى على يد العثمانيين بأنها "إبادة جماعية". ويتهم "الأرمن" الدولة العثمانية بارتكاب جرائم تصفية وإبادة بحقهم والتي توصف بأنها إحدى أبشع المجازر وأعنف عمليات التطهير العرقي في العصر الحديث، حيث يؤكد الأرمن قيام الأتراك بقتل ما يقرب من مليون ونصف المليون مواطن أرمني في أثناء الحرب العالمية الأولى، بحجة تعاونهم مع الجيش الروسي عندما احتل شرق الأناضول!! من جانبها تنفي تركيا هذه القصة مؤكدة أن من قتلوا هم فقط 500 ألف أرمني ومثلهم من الأتراك فيما يصفونه بأنه "حرب أهلية" ناجمة عن تمرد الأرمن على الحكم العثماني. توقيت مصادقة البرلمان الألماني على هذا القرار يثير تساؤل البعض… لماذا الآن؟ فلو كان القرار قد صدر العام الماضي لبدا الأمر منطقيًّا لتزامنه مع ذكرى مرور 100 عام على المذابح، لكن اليوم لا يوجد سبب منطقي يدعو إلى التحرك القوي للبرلمان الألماني لاتخاذ هذا القرار. كثير من المراقبين يعتبرون تحرك البرلمان الألماني تحركا تشريعيا بنكهة سياسية، فألمانيا التي تقود الاتحاد الأوروبي الآن لم تكن لتسمح لأردوغان بالتمدد أكثر من هذا، خصوصًا بعد أن نجح في ليّ ذراع القارة العجوز في أثناء مفاوضات بروكسيل (الخاصة بملف اللاجئين) وأجبرها على الموافقة على طلباته. القرار الذي شارك في إعداده أحزاب الحكومة الائتلافية الثلاث (الاتحاد الديمقراطي المسيحي - الاتحاد الاجتماعي المسيحي - الديمقراطي الاجتماعي) يراه البعض كقميص عثمان، ورقة ضغط تناور بها ألمانيا في جولات مفاوضاتها التي لا تنتهي مع تركيا الساعية للانضمام للاتحاد الأوروبي أو على الأقل تطالب بالسماح لمواطنيها الأتراك بالمرور لأوروبا دون تأشيرة. وحتى الآن التصويت باعتبار ما حدث للأرمن على يد الأتراك "جرائم إبادة" هو قرار رمزي وغير ملزم لأحد، لكن "أنقرة" تدرك أن الموقف أخطر من أن يكون مجرد توصية، فألمانيا هنا تمثل حلقة جديدة في مسلسل القرارات التي بدأتها فرنساوروسيا وإيطاليا والفاتيكان، ولو زاد عدد الدول الأوروبية التي تعتبر ما حدث إبادة جماعية، قد يتطور الموقف لفرض تعويضات ثقيلة وأعباء منهكة، فضلا عن مسؤولية تاريخية قد تبقى لعقود. وهذا تحديدًا هو ما أثار قلق تركيا والذي عبر عنه أردوغان قائلا: "هذا القرار سيؤثر بشكل كبير على العلاقات الألمانية - التركية، محذرًا ميركل من الوقوع فريسة لتلك اللعبة". وعلى الفور استدعت تركيا سفيرها في برلين للتشاور. أما رئيس الوزراء التركي "بن علي يلدرم" فقد وصف التصويت بأنه أمر "سخيف". وفي نفس الوقت تقريبًا الذي أخرجت ألمانيا فيه ورقة "إبادة الأرمن" على يد الأتراك، كان أردوغان يتخذ خطوة أخرى مثيرة للغط، والمدهش أنه هو الآخر استخدم برلمان بلاده. نجح أردوغان في آخر مايو الماضي في تمرير تعديل دستوري داخل البرلمان التركي يسمح برفع الحصانة عن النواب وإحالتهم إلى التحقيق أمام النيابة، في خطوة وصفت بأنها تقويض جديد لحصن الديمقراطية لصالح أطماع أردوغان. أردوغان بعد هذه الخطوة أصبح بإمكانه ملاحقة 138 نائبًا من الأحزاب المعارضة، منهم 50 نائبا عن حزب "الشعوب الديمقراطية" الذي تتهمه السلطة في أنقرة بأنه ذراع سياسية لحزب العمال الكردستاني المصنف كمنظمة إرهابية. وفور تصديق البرلمان التركي بتأييد 376 نائبًا (تقريبًا ثلثا النواب) على قرار تعديل الدستور وإعطاء السلطة القضائية حق رفع الحصانة عن أي نائب، فر عدد من نواب "حزب الشعوب" إلى أوروبا وعلى رأسهم النائبان "طوبى هزير، وفيصل ساري يلدز" اللذان وجهت لهما تهمة التعاون مع الإرهاب. قرار البرلمان التركي تلقته روسيا بقلق بالغ، وهو ما ظهر جليًّا في تصريح "إيجور موروزوف" عضو لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الاتحاد الروسي الذي قال فيه "رفع الحصانة عن نواب البرلمان هو أول خطوة في طريق أردوغان لإبادة الأكراد" ملمحًا إلى إبادة الأرمن من قبل. وما يقلق روسيا هو أنه حال تغول سلطة أردوغان الداخلية وقضائه على كل معارضيه، فإنه قد يبدأ في إعادة فتح بعض الملفات الإقليمية المغلقة، وهذا مربط الفرس لروسيا التي لا تريد من أنقرة إحياء الفتن في إ قليم "قرة باغ" مرة أخرى والتي شهدت صراعات عرقية لمدد طويلة بين أذربيجان وأرمينيا، وتسعى روسيا لإبقاء الأمر تحت السيطرة فيه. المثير أن ألمانياوروسيا تلوحان لأردوغان بورقة "مذابح الأرمن" في نفس الوقت تقريبًا، مما يوحي بأن كلتيهما لا تريد للسطان الجديد أن يتمدد خارج حدوده، وأن الرجل بات يشكل مصدر قلق ينبغي تحجيمه.