(1) قال لى شيخى وقد فهم ما ألمّ بى: الأذى له وجه آخر بخلاف الأذى. كل نبى تعرض إلى الأذى حتى لا يركن لأحد غير الله. قال: عدو يجعلك تقول (الله) مستغيثا به خير من حبيب يؤنسك ويريح قلبك فيقطعك عن الله. قال لى شيخى: في البلايا ألطاف، وابتلاء يخرجك من الغفلة ويعيدك إلى حضرة الله هو لطف منه. قلت له: ولكن طمعى في الله أن أكون في حضرته عبد إحسان لا عبد ابتلاء. ابتسم شيخى قائلا: و كيف يطمع أن يدخل حضرة الله من لم يتطهر من جنابة غفلته؟ قلت له: لقد تحملت من أذى البشر ما يفوق طاقتى. قال: متى أوحشك الله من البشر فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به. قلت له: هل تقصد أن ما بى من ابتلاء هو نعمة في حقيقته؟ قال شيخى: الذى واجهتك منه الأقدار هو الذى عودك حسن الاختيار، راجع ما سبق أن اختاره لك طوال حياتك لتعرف أن اختياره دائما كان اختيار حسن حتى لو تفهم أنت ذلك في وقتها. قلت: ولم اختار الله أن ينعم علىّ عن طريق الابتلاء؟ قال شيخى: من لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان قيد إليه بسلاسل الامتحان، هناك نفوس لا تدخل الجنة إلا جرًّا بسلاسل، وعندما قال الله (وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا) كان يقول لنا إن هناك بلاء حسنا وبلاء قبيحا، أما الحسن فهو للمؤمنين وهو الأمراض ونقص الأموال والأنفس والثمرات، هذا بلاء يجعلك تعود إلى دائرة الله تكلمه وتسأله، وهناك بلاء قبيح وهو الجهل والكفر والضلال وهو بلاء غير المؤمنين، فاطمئن. قلت له: فلتدع لى بالرحمة. صمت الشيخ قليلا ثم نظر عبر نافذته وهو يقول: يا عبدى كيف أرحمك بدفع ما به أرحمك؟ قلت لشيخى: لا أفهم. قال: ستفهم، قالوا الأكابر قديما (متى فتح لك باب الفهم في المنع، أصبح المنع هو عين العطاء)، إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك ما يقصده الله به، فاصبر، وستفهم يوما ما، لكن نصيحتى لك: لا تكن ممن استعجل شيئا قبل أوانه فعوقب بحرمانه. قلت له: ألا ترى أننى أصبر؟ ابتسم شيخى قائلا: أنت تشكو، والصبر هو كتم الشكوى. (2) دخل على شيخه ثم جلس إلى جواره بعد السلام صامتا. كانت ملامح وجهه تضج بكلام كثير غير مريح، عرف الشيخ سبب عدم الراحة عندما لاحظ أنه يحرك خاتم الزواج فى إصبعه صعودا وهبوطا. فهم الشيخ ما يدور فى باله من شكوى معلقة، فقال له (الرجال قوامون على النساء) هل فكرت يوما فى المعنى الحقيقى للجملة؟ قال له الجملة واضحة وتعطى الرجال درجة أعلى. قال الشيخ: أما الدرجة الأعلى فهى موجودة ولكن ليس هذا هو المعنى المباشر، للرجل درجة على المرأة، بأنه خلقه بيديه، ثم خلق منه المرأة، فالرجل بالأصالة والمرأة بالتبعية (وللرجال عليهن درجة)، ولذلك سموا نساء من النّسء، وهو التأخر لتأخر خلقهن عن الرجال. بقى السؤال بدون إجابة (الرجال قوامون على النساء). قال شيخه: (قوامون) من اسم الله (القيوم) أى القائم على خدمة البشر والوفاء باحتياجاتهم، هذا حق العالمين على (رب العالمين)، منحك الله شرف أن تكون قواما على النساء، لا بمعنى أنك أفضل منهن، ولكن هذا يعنى أنك القائم على خدمتها، الحقيقة أنك ربما تكون (السيد) لكنك لست سيدا مجانا، أنت السيد من باب خادم القوم سيدهم، لكن الأصل أنك (الراعى) المسئول عن رعيتك، شديد التحمل لهم ودائم الصبر عليهم، الممسك بيدهم لتعبر بهم الطريق، أنت خادم لزوجتك يا ولدى.. فهمت؟ تململ قليلا وكاد يفتح باب الشكوى غير مبال بنصائح شيخه القديمة. قال له شيخه: أفهمك يا ولدى.. كانت آخر كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم أنْ أوصانا خيرًا بالنساء، هو يعرف أن ثمة إرهاقا فى عشرتهن وثمة غلظة فى قلوب الرجال، لذلك كانت الوصية، فى التزامك بها سعادتك وفى تمردك عليها شقاء لا علاج له، تذكر أن سيدنا آدم كان يمرح فى الجنة ثم اكتشف فجأة أن لا طعم لها، فخلق الله له حواء ليأنس، أى أن الجنة نفسها لم يكن لها طعم بدون حواء. تنهد ثم نظر إلى وجه شيخه وهو مقتنع بكلامه لكنه لم يعرف كيف يترجمه إلى أفعال، فسأله (يعنى أعمل إيه؟). ابتسم الشيخ له قائلا: الصبر. (3) بعد أن أنهكه التجوال فى المولد وبعد أن فشل فى الوصول إلى مقام السيدة زينب وجد نفسه يجلس على مقربة من إحدى خيام الخدمة التى تقدم الشاى والطعام لرواد المولد، كان رجل الخدمة أمام موقد البوتاجاز يجلس وحيدا مبتسما، التقت عيناهما فدعاه للدخول. دخل وجلس صامتا يشرب الشاى، قال له رجل الخدمة "تعرف ابن عطاء الله السكندرى قال إيه ؟"، هز الضيف رأسه نفيًا، فقال رجل الخدمة "ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك"، لم يفهم الضيف، فقال الرجل "يعنى ربما أعطاك الله الصحة الوافرة فاستخدمتها فى المعصية فمنعك عن طاعته، وربما جعل صحتك على القد فوقاك بذلك شر نفسك التى قد تحدثك بالانفلات"، قال الضيف "فلتكن الصحة وليكن ستر الله إذا استخدمتها فى المعصية"، قال رجل الخدمة "كان شيخى يقول لى: من يعرف الله لا يطلب منه أن يستره فى المعاصى، ولكن أن يستره عن المعاصى". قال الضيف "لعلك رجل زاهد"، فقال رجل الخدمة "وهل تعرف ما الزهد؟" قال الضيف "إذا منحنى الله شكرت وإذا منع عنى صبرت" قال له رجل الخدمة "سأقول لك قول الأكابر: ما تقوله هو حال البهائم.. الزهد يا بنى أن يمنع عنك الله فتشكر ويمنحك الله فتؤثر الآخرين على نفسك فى هذه النعمة". قال الضيف "لعلك شيخ من الأولياء"، قال رجل الخدمة "سيدى المرسى أبو العباس يقول إن معرفة الشيخ أصعب من معرفة الله، فلا تتسرع فى تنصيب أحد شيخًا" قال الضيف "ألا تشعر بالحزن أبدا؟" قال رجل الخدمة اتبع قاعدة قديمة تقول (ليقل ما تفرح به يقل ما تحزن عليه). قال الضيف "أنت تعيش خارج العالم وتصبر نفسك بكلمات متقشفة، الدنيا مليئة بالمتع لكنك تخاف أن تقترب منها"، ابتسم رجل الخدمة قائلا "أقول لك ما رد به من هم فى مثل حالى على هذا الاتهام (والله نحن فى لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف)، قال الضيف وهو يشيح وجهه بعيدا: "مجذوب" أعاد رجل الخدمة ملء الكوب للضيف وهو يقول "الصبر حتة تذوق .. من ذاق عرف يا بنى .. من ذاق عرف".