كل ما أتمناه في أعقاب قرار الحكومة الإيطالية سحب سفيرها من مصر للتشاور في إطار عدم رضاها عن التقدم الذي تحقق في حادثة مقتل طالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني، ألا يزيد "إعلام الصدر المفتوح" من الطين بلة ويبدأ حملة منظمة يهون فيها من شأن القرار، ويتهم روما بأنها جزء من المؤامرة العالمية لهدم مصر، أو أن رئيس وزرائها يتلقى مرتبًا شهريًّا من جماعة الإخوان المسلمين. نحن في مأزق حقيقي، وإيطاليا ليست بالدولة التي يمكن الاستهانة بها في المحيط الأوربي والدولي. كما أن رئيس الوزراء الحالي، ماتيو رينزي، مضطر إلى اتخاذ موقف متشدد في ضوء الانتقادات التي تلاحقه بأنه كان من أول المسئولين الأوروبيين الذين قدموا دعمًا للرئيس عبد الفتاح السيسي، تلاه الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند ثم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. وغالبًا، فإن هذه الانتقادات كانت السبب وراء القرار السريع الذي اتخذته الحكومة الإيطالية بسحب سفيرها، بينما الوفد المصري رفيع المستوى من المحققين لم ينه بعد اليوم الثاني من مباحثاته مع نظرائهم الإيطاليين.
نعم إيطاليا، وكل قادة الدول الأوروبية والولايات المتحدة، يحتاجون إلى مصر وبقائها متماسكة في وقت لا ينقصهم فيه المزيد من الفوضى في المنطقة واتساع مشكلة تدفق المهاجرين والإرهابيين على أوروبا. ولكننا في مصر يجب أن لا نقلل من تأثير الضغط الذي يتعرض له رئيس الوزراء الإيطالي من رأي عام غاضب، وأم ملتاعة رفعت شعار "الحقيقة لجوليو ريجيني" وأبكت الجميع عندما صرحت بأنها لم تتعرف على جثة ابنها إلا من طرف أنفه، وأنها رأت شرور العالم بأجمعه على وجهه الصغير. هذه الأم لن تدع القضية تمر، ولن ترضيها بالطبع بيانات وزارة الداخلية المضحكة بالعثور على العصابة التي قتلته، مع قتل كل أفرادها في نفس الوقت، وتأكيدات أسرهم بعد ذلك أنه ليس لهم علاقة مطلقًا بحادثة قتل ريجيني. قتلنا خمسة مواطنين مصريين من أجل إسكات الرأي الغاضب في ايطاليا، ولكن الحقيقة لا تزال غائبة. لن نحل هذا الموقف بالحديث عن مواطن مصري اختفى في إيطاليا منذ شهور، وأننا لم نسبب ضجة كبيرة بشأنه في ضوء تقديرنا للعلاقة الخاصة بين الدولتين. قد تقبل حكومتنا ذلك، وتستطيع أن تدعو المواطنين للصبر حتى يتضح مصير ذلك المواطن المصري المختفي في إيطاليا. ولكن هذا المنطق في حد ذاته هو ما يزيد من غضب الإيطاليين، إذ إن ظروف اختفاء ريجيني والمواطن المصري مختلفة تماما. فالمواطن المصري لم يختف يوم 25 يناير عندما فرضنا على أنفسنا كمصريين حالة من حظر التجول الطوعي خشية انتشار رجال الأمن في كل شارع وحارة. كما أن مواطننا المختفي في ايطاليا لم تظهر جثته وعليها آثار تعذيب بشع وصعق بالكهرباء وخلع أظافر وكسر في جمجمة الرأس بآلة حادة. الإيطاليون يريدون حقائق مقنعة وأدلة قاطعة، وليس هذا ما حمله الوفد المصري على ما يبدو في مباحثات روما. بالطبع لم يتسرب الكثير عن أسباب هذا الفشل السريع للمباحثات بين الطرفين، وكل ما تداولته وسائل الإعلام كان مصدره الجانب الإيطالي. وبينما تستغل جماعة الإخوان المسلمين هذه الحادثة لتبث كمًّا هائلاً من التقارير المغلوطة حول مطالبة الجانب الإيطالي لمصر بالتحقيق مع كبار المسئولين، بما في ذلك مدير مكتب الرئيس ورؤساء الأجهزة الاستخباراتية، وأن الجانب الإيطالي يمتلك محادثات وفيديوهات ترتبط بحادث قتل طالب الدكتوراه في جامعة كامبريدج البريطانية، فإن الجانب الإيطالي يؤكد أن المطلوب كان معلومات محددة تتعلق بالتسجيلات الهاتفية الخاصة بريجيني، وكذلك صور الكاميرات في الشوارع المحيطة بالمنطقة التي يعتقدون أنه اختفى بها، وهي منطقة الدقي حيث كان يسكن. كما أشار وزير الخارجية الإيطالي في تصريحات أمام برلمان بلاده أن إيطاليا ترغب أيضًا في معرفة إذا ما كان ريجيني خضع للرقابة من قبل جهاز الأمن الوطني في ضوء كل ما تناقلته الأخبار عن أن مجال بحث الدكتوراه الخاص به كان يتعلق بالنقابات العمالية المستقلة. لم يذهب الوفد المصري لروما بهذه المعلومات المحددة، وكرر، وفقًا للمسئولين الإيطاليين، أن التحقيقات لا تزال تشمل الارتباط المحتمل لعصابة القتلى بحادثة اختفاء ومقتل ريجيني. وتسرب أيضًا أن الوفد المصري قدم العديد من نصوص التسجيلات الخاصة بمكالمات ريجيني باللغة العربية، وهو ما يعني استغراق المزيد من الوقت حتى تتم ترجمتها والتحقق من مضمونها من قبل الجانب الإيطالي. لا بد من محاسبة المسئولين عن مثل هذا التعامل الفاشل مع هذه الأزمة، بداية بمن روجوا بأن ريجيني قتل في حادثة سيارة، أو أنه كان ضحية ممارسات جنسية شاذة، ومن قام بإبراز تصريحات شاهد الزور بأنه رأى ريجيني في شجار مع مواطن إيطالي آخر بالقرب من القنصلية في شارع الجلاء، ونهاية بالمسئولين عن إصدار بيان الداخلية المضحك بشأن العصابة المزعومة المتورطة في قتل ريجيني. نحن نريد الحقيقة قبل الإيطاليين، ونريد محاسبة من تسببوا في هذه الأزمة الخطيرة مع أحد أهم وأقرب الدول الأوروبية لنا في مصر.