«لن تجد في واقعنا المعاصر من يمكنه القول إنه ضد حرية الإبداع، وسوف نسمع من الجميع أنهم مع حرية الإبداع والمبدع إلى آخر مدى، ولكن. عند كلمة ولكن تظهر المعوقات وتنتشر القيود، ضمنية حينًا أو صريحة حينا آخر». بهذه الكلمات افتتح وزير الثقافة حلمى النمنم كتابه «الحسبة وحرية التعبير» والذى صدر في الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان 2012، منذ أربع سنوات فقط. وهي ليست بالمدة الطويلة التي تبرر انتقال النمنم نفسه إلى معسكر (لكن) وهو يتحدث عن قضية رواية «استخدام الحياة» للزميل أحمد ناجى. (لكن المنافقة) كما سماها الراحل خالد محمد خالد منذ سنوات طويلة عندما يري أناس يستخدم الكلمة لتبرير مواقفهم المتخاذلة. قال النمنم في حواره أول من أمس في "الأهرام": "لا أحد يختلف على الحرية كمفهوم وممارسة وهذا ما أدافع عنه طول حياتى، ولكن ما يجب أن ننتبه إليه تماما هو حدود هذه الحرية" أي أن النمنم يستخدم الأسلوب نفسه الذي ينتقده لدى الآخرين. ما الذي اختلف؟ هل نحن أمام شخصين؟ نمنم ما قبل الوزارة ونمنم ما بعدها! نعود بالذاكرة إلى سنوات ليست بعيدة. بداية الألفية. عندما انتفض محمد عباس الكاتب بجريدة "الشعب" دفاعًا عن تصوراته لمفهومى الأخلاق والدين ضد رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر. صرخ: من يبايعنى على الموت؟ وانضم إليه فهمى هويدى، وعادل حسين وأحمد عمر هاشم. ومصطفى بكرى (طبعًا). وقتها كتب (الصحفى) حلمى النمنم دفاعًا عن الرواية وكاتبها: "إننا لم نعرف في تاريخ الأدب كله أن رواية هزت عقيدة سياسية أو اجتماعية، فما بالنا بالعقيدة الدينية، لقد صدرت عشرات الروايات لضرب العقيدة السياسية للاتحاد السوفييتى، ومع ذلك حين انهار الاتحاد السوفييتى كان لأسباب داخلية عميقة، ولأن عناصر الانهيار كانت داخل تلك العقيدة السياسية وليست بسبب الروايات التي صدرت لتندد بها". انتهى كلام النمنم الذي دبج بعدها كتابًا كاملا دفاعًا عن حرية التعبير. والآن لم تتبدل المواقع، بل ترك النمنم موقعه إلى الجبهة الأخرى مهاجما أحمد ناجى في ظاهرة تحتاج إلى محلل نفسي! يصف النمنم رواية أحمد ناجي بالانحراف ويستخدم الخطاب الشعبوى للتدليل على ذلك. "هل تسمح لأمك أو بنتك بقراءة النص". وربما هذا الهجوم هو نوع من السلاح الفاسد الذي يستخدمه الوزير للبقاء في منصبه، وربما يبقى وزيرًا. ولكن بالتأكيد لن يستمر في منصبه طول العمر، لذا فرهانه الأكبر أن ذاكرة المثقفين ليست قوية، وبالتالى عندما يخرج من منصبه سيجد من يحتضنه ويدافع عنه. ويصبح جزءًا من الجماعة الثقافية التي تنسى بطبعها. وسيدبج المقالات دفاعا عن حرية الرأى والتعبير. واهى غلطة! في الحوار نفسه يجيد الوزير لعبة خلط الأوراق، إذ أعتبر أن الضجة التي أثيرت ضد "أولاد حارتنا" في الخمسينيات لم تكن بسبب الرواية وإنما بسبب نشرها في "الأهرام" جورنال الدولة الذي يوزع ملايين النسخ. هل راجع الوزير أرشيفه وقد كتب ذات يوم عن "قضية أولاد حارتنا". وخصص لها فصلا في كتابه عن الحسبة؟ وهل نسى أن تأميم الصحافة جرى بعد نشر رواية "أولاد حارتنا" بثلاث سنوات. وأن "الأهرام" عندما نشرت رواية نجيب محفوظ كانت قطاعا خاصا؟ وهل يقدم الوزير بعد كل هذه السنوات المبررات لمن هاجم نجيب محفوظ وقتها ليصبح لا فرق بينه وبين من طعن محفوظ بسكين صَدِئة؟ أتمنى أن يعيد النمنم قراءة كتابيه "وليمة الإرهاب الدينى". و"الحسبة وحرية التعبير". ففيهما إجابات عن التساؤلات التي طرحها حول الرقابة والحرية والمجتمع. أتمنى أن يقف حلمى الإنسان في مواجهة حلمى الوزير! وربما استمع الوزير ذات يوم إلى الحكاية التي حكاها أستاذنا كامل زهيري عن صديقه الشيوعى السودانى الذي ظل مطاردًا من السلطة، ولكنه لظروفٍ ما، أصبح رئيسًا للوزراء: - إيه أجمل حاجة في الدنيا يا كامل؟ - النسوان؟ - لا
- المانجة! - لا، أجمل حاجة في الدنيا هي السلطة. كفاية إنك تقعد على كرسي السلطة وتجرب! كان زهيري يحكى الحكاية بلهجته المميزة للدلالة على ما تفعله السلطة بالبشر، بالفعل لا يحتاج حلمى النمنم وموقفه من حرية أحمد ناجى إلى محلل نفسي، ولكن إلى أن يقرأ هذه الحكاية. لعله يفهم!