موقع إلكتروني ولجنة استشارية، البلشي يعلن عدة إجراءات تنظيمية لمؤتمر نقابة الصحفيين (صور)    عُمان تستضيف اجتماع لجنة الشرق الأوسط بالأمم المتحدة للسياحة    البنك المركزي يسحب سيولة بقيمة 3.7 تريليون جنيه في 5 عطاءات للسوق المفتوحة (تفاصيل)    محافظة أسوان تستعد لإطلاق حملة التوعية "اعرف حقك" للأمان الإلكترونى    «القومي للمرأة» ينظم تدريب لميسرات برنامج نورة بسوهاج وأسيوط    الخارجية الإماراتية: لولا الدعم المصري ما استطاع أحد إيصال المساعدات إلى غزة    قبل لقطة كلوب.. كيف خطفت زوجة صلاح الأنظار في كل ختام للدوري الإنجليزي؟    "عبر الفيديو كونفرس".. اجتماع بين اتحاد الكرة وكاف والأهلي بخصوص تنظيم نهائي أبطال أفريقيا    يورو 2024، أول تعليق من راشفورد على قرار استبعاده من قائمة إنجلترا    لست وحدك يا موتا.. تقرير: يوفنتوس يستهدف التعاقد مع كالافيوري    "بشرى سارة لجماهير الأهلي".. قناة مفتوحة تعلن نقل نهائي دوري أبطال أفريقيا (فيديو)    الحماية المدنية تسيطر على حريق محل أدوات منزلية بالجمالية    بها 17 طعنة.. العثور على جثة شاب مجهول الهوية في نجع حمادي    إصابة 5 أشخاص إثر انقلاب سيارة ملاكى بالطريق الأوسطى    جنايات المنصورة تحيل أوراق أب ونجليه للمفتى لقتلهم شخصا بسبب خلافات الجيرة    «الأعلى للثقافة» يُعلن القوائم القصيرة للمرشحين لجوائز الدولة 2024    بهجة العيد وتلاقي التهاني: عيد الأضحى المبارك 2024 على الأبواب    علم فلسطين وحجاب في أبرز إطلالات سابع أيام مهرجان كان    كيف تحمى نفسك من الإجهاد الحرارى؟ وزارة الصحة تجيب فى إنفوجراف    دعاء اشتداد الحر عن النبي.. اغتنمه في هذه الموجة الحارة    «الجنايات» تقضي بإعدام مدرس الفيزياء قاتل طالب المنصورة    الجيش الإسرائيلى يعلن اغتيال قائد وحدة صواريخ تابعة لحزب الله فى جنوب لبنان    مصدر سعودي للقناة ال12 العبرية: لا تطبيع مع إسرائيل دون حل الدولتين    "السرفيس" أزمة تبحث عن حل ببني سويف.. سيارات دون ترخيص يقودها أطفال وبلطجية    تأجيل محاكمة 12 متهمًا في قضية رشوة وزارة الري ل25 يونيو المقبل    أبو علي يتسلم تصميم قميص المصري الجديد من بوما    تعرف على تطورات إصابات لاعبى الزمالك قبل مواجهة مودرن فيوتشر    محافظ أسيوط: مواصلة حملات نظافة وصيانة لكشافات الإنارة بحي شرق    لمواليد برج الثور.. توقعات الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024 (تفاصيل)    جهاد الدينارى تشارك فى المحور الفكرى "مبدعات تحت القصف" بمهرجان إيزيس    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    أمين الفتوى: قائمة المنقولات الزوجية ليست واجبة    هل يجبُ عليَّ الحجُّ بمجرد استطاعتي، أم يجوزُ لي تأجيلُه؟.. الأزهر للفتوى يوضح    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى.. والاحتلال يعتقل 14 فلسطينيا من الضفة    رئيس الوزراء يتابع عددًا من ملفات عمل الهيئة المصرية للشراء الموحد والتموين الطبي    «الرعاية الصحية» تدشن برنامجا تدريبيا بالمستشفيات حول الإصابات الجماعية    الجامعة العربية والحصاد المر!    «غرفة الإسكندرية» تستقبل وفد سعودي لبحث سبل التعاون المشترك    السيسي: مكتبة الإسكندرية تكمل رسالة مصر في بناء الجسور بين الثقافات وإرساء السلام والتنمية    المالية: بدء صرف 8 مليارات جنيه «دعم المصدرين» للمستفيدين بمبادرة «السداد النقدي الفوري»    «بيطري المنيا»: تنفيذ 3 قوافل بيطرية مجانية بالقرى الأكثر احتياجًا    وزير الأوقاف: انضمام 12 قارئا لإذاعة القرآن لدعم الأصوات الشابة    يوسف زيدان يرد على أسامة الأزهري.. هل وافق على إجراء المناظرة؟ (تفاصيل)    أفعال لا تليق.. وقف القارئ الشيخ "السلكاوي" لمدة 3 سنوات وتجميد عضويته بالنقابة    تفاصيل حجز أراضي الإسكان المتميز في 5 مدن جديدة (رابط مباشر)    في اليوم العالمي للشاي.. أهم فوائد المشروب الأشهر    «الشراء الموحد»: الشراكة مع «أكياس الدم اليابانية» تشمل التصدير الحصري للشرق الأوسط    لهذا السبب.. عباس أبو الحسن يتصدر تريند "جوجل" بالسعودية    هالاند.. رقم قياسي جديد مع السيتي    حفل تأبين الدكتور أحمد فتحي سرور بحضور أسرته.. 21 صورة تكشف التفاصيل    وزير التعليم: مدارس IPS الدولية حازت على ثقة المجتمع المصري    «القومي للمرأة» يوضح حق المرأة في «الكد والسعاية»: تعويض عادل وتقدير شرعي    «ختامها مسك».. طلاب الشهادة الإعدادية في البحيرة يؤدون امتحان اللغة الإنجليزية دون مشاكل أو تسريبات    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي إلى 49570 جنديًا منذ بداية الحرب    اليوم.. «خارجية النواب» تناقش موازنة وزارة الهجرة للعام المالي 2024-2025    مندوب مصر بالأمم المتحدة لأعضاء مجلس الأمن: أوقفوا الحرب في غزة    منافسة أوبن أيه آي وجوجل في مجال الذكاء الاصطناعي    بوتين: مجمع الوقود والطاقة الروسي يتطور ويلبي احتياجات البلاد رغم العقوبات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد شعير يكتب: زيارة جديدة للرواية الممنوعة «أولاد حارتنا».. حكايتنا مع الرقابة!
نشر في الوادي يوم 31 - 12 - 2013

هيكل طلب من محفوظ حذف بعض مقاطع الرواية بالأهرام.. والمخطوط الكامل لدى مترجمها إلى الإنجليزية
عندما رتب مبعوث عبد الناصر لقاء بين محفوظ وثلاثة شيوخ كتبوا تقارير المصادرة فحضر الأديب وغاب الشيوخ
أحداث زمن الكتابة: خروشوف يزور القاهرة و5 آلاف صحفي يتابعون.. والسينما كومبليه تشاهد أفلام محفوظ
مبارك طلب نشرها بعد نوبل.. وصفوت الشريف اعترض.. وسكين أوقفت حركة يد كاتبها لسنوات
" أولاد حارتنا" ليست مجرد رواية، تصورت السلطة أنها منعتها لأكثر من خمسين عاما، بينما كانت الرواية على الأرصفة فى نسخ شرعية أحيانا.. ومزورة أحيانا أخرى. من لم يقرأ الرواية "الممنوعة" التى ظلت فى دائرة الضوء منذ نشرت جريدة الأهرام حلقاتها مسلسلة عام 1959، وعندما منع نشرها فى مصر باتفاق " جنتلمان" بين نجيب محفوظ وبين المندوب الرسمي للرئيس عبدالناصر، وعندما عادت للضوء مرة أخرى بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل، وعندما اقترب منه شاب لم يقرأ له حرفا وطعنه بسكين صدئه فى رقبته تنفيذا لفتوى شيخه ... سكين أوقفت حركة يده اليمنى لسنوات.. وعندما صدرت طبعتها الأولي فى مصر بعد رحيل محفوظ صدرت بمقدمة إسلامية كأنها صك براءة لعمل فنى خيالي. "أولاد حارتنا" هى حكايتنا، حكاية مصر مع الرقابة.
-1-
21 سبتمبر 1959:
درجة الحرارة فى القاهرة أقرب إلى البرودة مع بعض السحب التى تغطى سماء مناطق الوجه البحري. شيوعيو مصر فى سجون النظام، وحملات عنيفة فى الجرائد لتشويههم، عناوين الجرائد الرئيسية تتحدث عن المظاهرات الحاشدة التى خرجت فى العراق ضد عبدالكريم قاسم، بعد إعدامه لقادة " ثورة الشواف" التى بدأت ضد حكم قاسم، في شهر مارس..واستمرت محاكمة صورية لهم حتى تم اعدامهم .
الأخبار ترصد رفع الطلاب المعارضين لقاسم للمصاحف، رغم ذلك اعتدت عليهم قوات الأمن بضراوة ... حوارات فى ذلك اليوم والأيام التى تليه مع عائلات الضباط الذين تم اعدامهم..تركز الحوارات على جوانب إنسانية ودينية من حياتهم. بعد أيام تنشر جريدة " أخبار اليوم" نص كتاب تتهم فيه " نيرون بغداد" اللقب الذى أطلق على قاسم بتبنى أفكاره والترويج له فى العراق، يتضمن طعنا فى الدين الإسلامي...واسمته الجريدة " الكتاب الملعون".. وتخصص صفحة للداعية عبدالرازق نوفل لتفنيد دعاوى الشيوعيين ضد الدين..
لأول مرة الزعيم الروسى خروتشوف يزور " أمريكا" ويخطب فى الأمم المتحدة، حدث أبرزته الصحافة .. واحتفت بخطابه الذى طالب فيه: " بإلغاء الجيوش من كل دول العالم والغاء وزارات الدفاع والكليات العسكرية..والاكتفاء فقط بمجموعات صغيرة لحفظ الأمن الداخلي". الجرائد أفردت صفحات لكواليس الزيارة التى تعد الأولي لزعيم روسي إلى أمريكا ، حتى أن 5 آلاف صحفى من أنحاء العالم شاركوا فى تغطية الزيارة ، يتابعون كل همسة يقوم بها الزعيم الروسي الذى غضب وهدد بإلغاء الزيارة – كما كتبت جريدة أخبار اليوم- بسبب رفض البوليس الأمريكى طلبه بزيارة مدينة "والت ديزنى".. وأمام اصراره زار مدينة الخيال وجلس إلى مارلين مونرو وبوب هوب وفرانك سيناترا وشيرلي ماكلين. فى الجانب الآخر استكمال حملة صحفية ضد – من اسمتهم الجرائد – اتباع جيمس دين . وهم مجموعة شباب يقلدون النجم الأمريكى الشهير .. جيمس دين (1931 - 1955) الذى يعتبر رمزا ثقافيا لخيبة أمل المراهقة، التي صورها في فيلمه الأشهر "متمرد بلا سبب" سنة 1955، و الذي يصور قصة في لوس أنجلوس عن مراهق مسبب للمشاكل أو بالأحرى "متمرد" اسمه جيم ستارك، اعتمدت نجومية دين على أدائه في ثلاثة أفلام فقط. وفاته المفاجئ في حادث مروري جعله من أساطير هوليوود). الحملة ضد الشباب كان بسبب تمردهم على جيل الآباء، ولأنهم ويرقصون الرقصة الجديدة وقتها" التشاتشا تشا" .. ويدخنون السجائر ويتركون شعورهم بلا حلاقة. الحملة انضم إليها خطباء المساجد الذين ركزوا فى خطبة الجمعة على نقد هؤلاء الشباب وحبسهم لحماية المجتمع من فسادهم.. وطالب صحفيون وسياسيون بتجنيد هؤلاء، لجعلهم عبرة... وفى اليوم ذاته سطا اللصوص على " كرمه ابن هاني" بيت أمير الشعراء أحمد شوقي، سرقوا من دولاب ذكرياته نخلة من الذهب اهداها له أمير البحرين بمناسبة تنصيبه أميرا للشعراء ..كما سرق اللصوص كأسا من الفضة هدية من هدى شعراوى باسم الاتحاد النسائى. قبل يومين خطب عبدالناصر فى مدينة رشيد فى مناسبة ذكرى انتصارات المدينة على الجيش البريطاني ، واعلن فى خطابه تصفية الإقطاع وتوزيع الأراضى التى استولى عليها الاصلاح الزراعي ، وأعلن عن مشروع جديد " مشروع ناصر لتمليك الماشية للفلاحين" .. ووزع بالفعل أول عشر مواشي على الفلاحين فى الاحتفال. ليعود فى ذلك اليوم من الإسكندرية بصحبة عبدالحكيم عامر ..فى قطار مكشوف اصطفت الجماهير على أحد رصيف القطار لتحية الزعيم ووزير دفاعه.
-2-
سينمات القاهرة " كومبليه" تقريبا، اعلانات الأفلام الجديدة تحتل مساحة كبيرة فى اعلانات الصحف، يمكن أن نرصد فى ذلك اليوم أكثر من 15 فيلما مصريا ، ومثلها من الأفلام الأجنبية ، من بينهم " حسناء النهر" لصوفيا لورين، " ذو الوجه الأصفر" لبوب هوب وجين رسل، أعظم مغامرات طرزان،" عاشت للحب" لزبيدة ثروت، " الحب الأخير" لهند رستم وأحمد مظهر،" البوليس السري" لإسماعيل يس، و" المليونير الفقير" لفايزة أحمد وإسماعيل يس أيضا. رياض السنباطي انتهى من تلحين الأغنية الجديدة التى ستفتتح بها أم كلثوم موسمها الغنائى:" الحب كدة"..ومن استوكهولم يحاور ناصر الدين النشاشيبى فى جريدة "الأخبار" البروفيسور ستن فريبرج عضو مجلس إدارة جائزة نوبل الذى يعلن أن : "الجامعات العربية مسئولة عن عدم ترشيح أى عربي لجائزة نوبل" ... ويكتب أحمد بهاء الدين من باريس عن" سجناء التونا" للسارتر المسرحية التى تهز أوروبا كلها، حسب تعبيره، ويعتبرها أخطر عمل فنى عرض منذ نهاية الحرب العالمية. كتب بهاء:" يستغرق عرض المسرحية 4 ساعات لا تتخللها إلا استراحة قصيرة..هاجمها كتاب اليمين لأنها غير مفهومة، وكتاب اليسار قالوا أن سارتر لم يقل كل ما يجب أن يقال فى طعن حضارة اوروبا، وأنه يبدو فى المسرحية بائسا. ما سارتر نفسه فقال:" لقد اردت أن يشعر الناس فى هذا القرن أن هناك قرونا اخرى ستحاسبنا على هذا الذى نصنعه بالعالم".
-3-
فى الصفحة العاشرة بدأت جريدة "الأهرام" فى نشر أولى حلقات رواية نجيب محفوظ الجديدة التى تحمل عنوان " أولاد حارتنا" ..وهى الرواية التى حصل محفوظ بموجب عقد مع الجريدة على 1000 جنيه.. وهو أكبر مبلغ دفعته جريدة مقابل نشر " قصة" حسبما نشرت الأهرام فى إعلانها عن نشر الرواية!
-4-
سأله المحاور: ما هى أمنيتك؟
أجاب نجيب محفوظ: أمنيتى أن أواصل كتابة رواية " اولاد حارتنا" التى بدأت فيها. كان الحوار فى 11 فبراير 1959 بجريدة الأهرام، بمناسبة تولى محفوظ مسئولية جهاز الرقابة فى 3 فبراير من العام نفسه، وهى المرة الأولى التى يتحدث فيها محفوظ عن روايته التى لايزال يكتبها، قبل النشر بسبعة شهور كاملة، وبالعنوان نفسه الذى نشرت به، وما ما يعنى أن محفوظ دفع بالرواية للنشر مباشرة بعد الانتهاء منها، وليس صحيحا أنها ظلت عامين كاملين فى درج مكتبه .. إذ تبدأ السنة المحفوظية فى الكتابة من سبتمبر إلى إبريل، ثم يتوقف لمدة أربع شهور فى الصيف بسبب مرض الحساسية فى العينين، وهو ما يعنى أن محفوظ انتهى من كتابة الرواية فى إبريل من نفس العام( شهور التأمل والتفكير والراحة) كما يقول.
محفوظ فى حواره قال أن هناك أزمة فى المجتمع المصري ، هى أزمة ثقافة وانتقد السينما معتبرا أنها تسير "بالاجتهاد". بعد هذا الحوار مباشرة تحدث محفوظ فى جريدة "الجمهورية " فى يوليو من العام ذاته عن أمنية أخرى له، تمنى أن توافق عليها الدولة هى " إحالة الأدباء إلى المعاش فى سن الخمسين حتى يتفرغوا للكتابة".. وتحدث أيضا عن رغبته فى أن تقوم الدولة بتنظيم رحلات للأدباء والفنانين ليعرفوا بلادهم ، فهو لا يعرف شيئا عن أسوان أو الأقصر، ولم يخرج من القاهرة إلا إلى الإسكندرية ورأس البر.
بعد أيام من هذا سافر محفوظ لأول مرة إلى خارج مصر، تحديدا فى أغسطس، ليقضى هناك خمسة عشر يوما قبل نشر أولاد حارتنا بشهر، وبعد عودته نشر كمال الملاخ فى الأهرام انطباعاته عن الزيارة:" إنها المرة الأولى التى يترك البلد فيها، ليطير فوق البحر، ثم عاد بعد أن انخفض وزنه 6 كيلو كاملة".. محفوظ تحدث عن اعجابه بما شاهد من آثار ، وتحديدا قبر الجندي المجهول فى "قلعة فالا"، وما شاهد من مسرحيات ومسارح:" لقد استغلوا الأماكن الأثرية بطريقة عجيبة، فشاهدت أوبرا عايدة فى قصر الأمبراطور اقلديانوس، بعد أن حولوا قاعة العرش إلى خشبة مسرح، وهاملت لشكسبير التى شاهدتها على سطح قلعة دبروفينى .. شاهدت هاملت يخرج من حجرة ويلتقى بالشبح ..مع عينيه ..عند أسوار القلعة".
-5-
فى الفترة التى كان محفوظ ينشر فيها " أولاد حارتنا"..كانت دور العرض السينمائى تقدم لمحفوظ عملين سينمائيين، فى وقت متزامن تقريبا.. العمل الأول" أحنا التلامذة" كتب له السيناريو، عن قصة لتوفيق صالح، وكامل يوسف..وبطولة: تحية كاريوكا، وعمر الشريف، وشكرى سرحان، ويوسف فخر الدين ومن إخراج عاطف سالم، الدعاية للفيلم قامت على كونه " فيلم كل شاب وكل فتاة، كل أب وكل أم، كل اسرة وكل بيت..يحارب الميوعة ويدعو للقوة والبناء".. وهى العبارة التى كتبت بخط واضح على أفيش الفيلم، بالتأكيد العبارة لا تخص نجيب محفوظ، بقدر ما تخص المنتج حلمى رفلة الذى تحدث عن الفيلم فى مجلة "الجيل" باعتباره جزء من رسالة " ضد أشباة جيمس دين بعد أن تعددت مظاهر ميوعتهم وكثرت حوادث انحرافهم، مما ادى الى تدخل بوليس الآداب، وبعد أن دفعهم الحرمان إلى طريق الالم..طريق الشر". القلا اعتبر السينما " أقوى وسائل التوجيه"، بل إن الفيلم لا يعبر فقط عن وجه نظر المخرج او السيناريست وإنما "لأول مرة إلى أساتذة التربية، وعلم النفس والاجتماع الذين درسوا مشاكل الشباب، وتتبعوها..واختار القلا نجيب محفوظ لكتابه السيناريو لأنه " عرف بعمق دراسته، وقوة تصويره للشخصيات وبراعته فى التعبير عن احساسيسها وانفعالاتها".
الفيلم الثاني الذى عرض متزامنا مع نشر "أولاد حارتنا" هو " بين السماء والأرض" من إخراج صلاح أبوسيف، وكتب له محفوظ القصة، وشارك أبو سيف معه فى السيناريو، وهو أيضا يمثل نقلة فى سينما محفوظ من الواقعية أيضا إلى الانفتاح على الرمز واللعب الفنى. تماما كما كانت " أولاد حارتنا" بداية مرحلة جديدة فى عالم محفوظ الروائى، إذ تخلى فيها عن "الواقعية" الصرفة التى بلغت حدودها القصوى لديه فى " الثلاثية"..«بين السماء والأرض» ربما يمكن أن يكون نموذجا بارزا لهذا اللعب الفني. الفيلم ليس كوميدياً فقط، ولكنه فلسفي أيضاً.. فلسفة طرح الأسئلة المعلقة التي لا يمكن الوصول فيها إلى إجابة، ربما مثل أبطال الفيلم المعلقين بين السماء والأرض. شارك أبوسيف محفوظ كتابة السيناريو، ولكن بصمات محفوظ واضحة بقوة، هو كسيناريست يلعب في منطقة البحث عن الإمكانيات المتعددة للمكان المحدود... (احداث الفيلم تدور في اسانسير) وهذه منطقة أجاد محفوظ الإبداع فيها كروائي، سواء في «زقاق المدق» الرواية التي تدور أحداثها في ممر ضيق فيه فرن وبيت وقهوة وعطار (هو الزقاق نفسه).. او في «ثرثرة فوق النيل».. حيث تدور الاحداث في عوامة... بخلاف المكان المحدود الذي تخرج منه عوالم نابضة بالحياة، يسأل محفوظ طوال الفيلم اسئلة فلسفية عن حدود الواقع والخيال.. عن الخطيئة.. الموت والحياة والعقل والجنون.. الخ.. شخصيات الفيلم في المكان المغلق المحدود تمثل ربما اطياف المجتمع بتناقضاتهم، هناك الارستقراطي (الأكثر رقة)، المجنون (الأكثر عقلا في المكان)، الفنانة التي تستعد لتصوير فيلمها الجديد، اللص الصغير، والآخر الكبير، البواب... المرأة الحامل التي تلد في اللحظة التي يموت فيها مختنقاً عجوز مريض، الزوجة الخائنة، والمتحرش... خارج الأسانسير أي خارج الأحداث عوالم أخرى، لكنها ليست منفصلة عما يدور فى (الأسانسير).. ربما كان أهمها مشاهد الفيلم (الذي يتم تصويره (داخل الفيلم الأصلي)، حيث ينتظر المخرج بطلة فيلمه لتصوير مشاهدها.. ومن ضمن هذه المشاهد رجال أمن يؤدون دورهم، وتتصور العصابة التى ستسرق إحدى الشقق أنهم رجال امن حقيقيون، وتبدأ معركة غير متكافئة..يصرخ المخرج: «دي سينما يا بني آدم مش لعبة. افهموها بقى»، بينما ينهال عليهم الرصاص الحقيقي الذي لم يكن متفقاً عليه...ما الفرق بين الواقع والخيال؟ وبين الواقع والسينما؟ ربما كان هذا هو سؤال الفن الرئيسي.. ربما أيضا كانت رسالة أبوسيف ومحفوظ وتصورهما للفن..لا يبقى الحال على ما هو عليه، يتم انقاذ الجميع، بعد أن اقتربوا من الموت، وتنتهي أحداث الفيلم بأن يعود كل شخص الى الطريق الذي قرره... (الاقتراب من الموت ما بيغيرش كتير في الاشخاص)... نهاية الفيلم، واحدة من اجمل النهايات في السينما المصرية. هند رستم بطلة الفيلم الذي يتم تصويره داخل الفيلم تقول للمخرج: «دي القصة اللي تستاهل إننا نعملها فيلم مش القصة اللي بنعملها»... المخرج (داخل الفيلم) بيرد عليها: بس دا فيلم اتعمل وانا شفته وكان بطولة هند رستم.... وإخراج أبو سيف. أي أننا نجد أنفسنا أمام لعبة فنية من ألعاب محفوظ وأبوسيف.... ولكنها لا تخلو من الرسالة السياسية.. حيث يحلمان بذوبان الطبقات. المدهش أن الفيلم عندما عرض للمرة الأولى لم يلقَ ترحيباً من النقاد، هاجمه تقريباً كل الصحافيين بحجة أن تجربة الموت تجربة «جَد» لا تستحق الهزر كما فعل بها أبوسيف ومحفوظ.. أو أن «المخرج والمؤلف صبّا ماء ساقعاً على رؤس المتفرجين» حسب تعبير موسى صبري في مقالته النقدية عن الفيلم.. ولكن ألم يدرك النقاد وقتها أن` أبوسيف ومحفوظ كلاهما كان يلاعب الموت!
-6-
وصلت أولاد حارتنا إلى الأهرام عن طريق مدير تحريرها على حمدى الجمال، الذى سلمها بدوره إلى رئيس التحرير محمد حسنين هيكل وطلب منه أن يقرأها بعناية، هيكل أدرك قبل النشر ما الذى يمكن أن تسببه الرواية، ولكنه لم يتراجع عن نشرها ، بل قرر – كما قال ليوسف القعيد فى كتابه " عبدالناصر والمثقفون والثقافة" أن ينشرها يوميا لا أسبوعيا كما اعتادت الأهرام من قبل وذلك حسب تعبيره:" حتى يفوِّت على أي جهة خاصة الأزهر الشريف أن يكون لديها رد فعل على نشرها". بدأت الضجة بعد الحلقة السابعة عشر، شكاوى وبلاغات عديدة ضد الرواية وتطلب تحرك الأزهر لوقف النشر، فسأل عبد الناصر هيكل عن الحكاية. وعندما عرف الموضوع قال له: «هذه رواية كتبها نجيب محفوظ ولا بد من نشرها، حتى آخر كلمة». ومع اشتداد الضغوط بعد أيام من الضجة، طلب هيكل من محفوظ ممارسة دور الرقيب على نفسه وحذف فقرات عديدة منها يمكن أن تزيد المحتجين احتجاجا. وهكذا نشرت الرواية مسلسلة ناقصة، ثم نشرت بالعربية ، وفيما بعد قام ناشرها دار " الآداب" بحذف فقرات أخرى عما كانت عليه فى الأهرام، ولكن عند نشرها مترجمة إلى الإنجليزية اتصل المترجم فيليب ستيوارت بمحفوظ وحصل منه على النص الكامل وقام بترجمته..ولهذا فالنص الإنجليزى هو الكامل للرواية. كما أن أصول مخطوط الرواية لدى مترجمها إلى الإنجليزية. محفوظ قال لرجاء النقاش فى كتابه " صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" .." بدأت الأزمة بعد أن نشرت الصفحة الأدبية بجريدة "الجمهورية" خبرا يلفت فيه النظر إلى أن الرواية المسلسلة التي تنشرها جريدة الأهرام فيها تعريض بالأنبياء.. وبعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض، ومن بينهم أدباء للأسف، في إرسال عرائض وشكاوى يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمي إلى المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدي على أساس أن الرواية تتضمن كفرا صريحا، وأن الشخصيات الموجودة في الرواية ترمز إلى الأنبياء..وقد عرفت هذه المعلومات عن طريق صديق لي هوالأستاذ مصطفى حبيب الذي كان يعمل سكرتيرا لشيخ الأزهر، وكان شقيقه يعمل وكيل نيابة، وهوالذي أخبرني أن أغلب العرائض التي وصلت إلى النيابة العامة أرسلها أدباء". الغريب أن جريدة الجمهورية لم تنشر شيئا عن الرواية فى بريد القراء( حسب رواية محفوظ)، كانت تنشر فى ذلك الوقت رواية " البيضاء" ليوسف إدريس، وهى الرواية التى ينتقد فيها بعنف التنظيمات الشيوعية المصرية، بدأ النشر بعد 12 يوما من نشر محفوظ " أولاد حارتنا". وقد نقلت مارينا ستاج عن ىوسف إدريس قوله إنه نشر "البيضاء" في "الجمهورىة" بتشجىع من صلاح سالم، أحد ضباط ثورة يوليو. وكان مشرفاً على "الجمهورية" في ذلك الوقت، رغبة منه فى منافسة"الأهرام" في نشر رواىة مسلسلة لكاتب كبير، فمن المؤكد أن نشر "البىضاء" ، والجمهورية ربما تمثل أحد أجنحة السلطة الناصرية اليمنية. أول ذكر للرواية كانت فى جريدة المصور، فى رسالة أرسلها قارئ يدعى محمد أمين إلى الشاعر صالح جودت محرر باب " أدب وفن" فى 18 ديسمبر 1959 أى قبل توقف نشر الرواية باسبوع كامل. القارئ اختار جودت لأنه" من القلائل الذين لم يدخلوا سوق النفاق".. واعتبر أن محفوظ فى روايته الجديدة:" يحيد ويجانب كل أصول القصة، فكتابته الأخيرة لا هى رمزية ولا هى واقعية، ولا هى خيال، ولا تنطبق على أى قالب معروف"..
وأضاف:" جاء محفوظ ليتحدى معتقدات راسخة، ولهذا يتعذر على كائن من كان حتى ولو محفوظ نفسه أن يقدمها بمجرد كتابه قصة...التستر وراء الرموز أضعف قضية نجيب محفوظ فى مجتمع يجل الدين بطبيعته .." جودت رد على صاحب الرسالة :" لا أستطيع أن أحكم على القصة الأخيرة لمحفوظ، الذى لا شك فى أنه يعد قصاص الطليعة عندنا اليوم، فإذا كان قد نحا فى قصته الجديدة نحوا جديدا غير ما تعودناه فى روائعه السابقة، فالحكم فى ذلك لمن قرءوا القصة" ...ويضيف:" الباب مفتوح لرسائل القراء الذى قرءوا قصة محفوظ".
-7-
التزم محفوظ الصمت تماما طوال أيام نشر الرواية التى انتهى نشرها يوم الجمعة 25 ديسمبر 1959 ، فى ذات اليوم ذهب نجيب محفوظ إلى ندوته الأسبوعية فى " كازينو الأوبرا"..اعتاد ان ينصرف كل أسبوع فى الواحدة والنصف، ولكنه فى ذلك اليوم حرص على البقاء حتى الثالثة والنصف لسخونة النقاش حول الرواية الجديدة. تزعم رفض الرواية فى الندوة مدرس أدب فى كلية الآداب وناقد صحفى فى إحدى الجرائد اليومية، لم تشر جريدة "الجمهورية" التى غطت تفاصيل اللقاء الى اسمهما. ولكن محفوظ أوضح وجهة نظره كاملة فى الرواية ..لأول مرة ..قال محفوظ:" إنه يريد الكشف عن الهدف الأساسي للبشرية، وهو البحث عن سر الكون، وحتى تستطيع البشرية الكشف عن هذا السر، تحتاج إلى التفرغ له والاستعداد، وهى لن تتمكن من هذا إلا بعد القضاء على استغلال الأغنياء للفقراء، والصراع بين الناس من أجل لقمة العيش". وأضاف محفوظ:" القصة تصور هذا الصراع المرير الذى تزعمه الأنبياء والرسل دفاعا عن الفقراء وتهيئة العيس السعيد للناس أجمعين حتى يتفرغوا للبحث الأعظم، ولكن ما إن تنتهى الرسالة حتى يعود الأغنياء فيقبضوا على زمام الأمور، وتعود المعركة من جديد للوصول إلى العدل والرفاهية للجميع، ثم تدخل "العلم" بعد انتهاء الرسالات ليقوم بنفس الغاية وهى إسعاد الناس، ولكن المستغلين سخروا العلم لمصلحتهم أيضا، وقتلوا رمزه فى القصة، إلا أن شخصا آخر استطاع الهروب بسر الاختراعات العلمية الحديثة ليعاود الكفاح من أجل إنهاء الصراع بسبب لقمة العيش والتفرغ لمعرفة سر الحياة". الناقد الذى لم تذكر الجريدة اسمه اعترض على ما قاله محفوظ معتبرا أن " القصة لم تضف جديدا، هى فكرة قديمة، هى مجرد تسجيل لتاريخ البشرية بلا إضافة من الكاتب الذى لم يحاول أن يستخلص من هذا التاريخ مغزى عاما جديدا، أو موقفا فكريا خاصا، وأنه فضلا عن ذلك قد جعل العلم يتمسح فى الغيبيات ، فى حين أنه نبذها من أول ظهوره حتى الآن".
-8-
رتب حسن صبري الخولي، المبعوث الشخصى للرئيس عبدالناصر لقاءا بين محفوظ وعدد من مشايخ الأزهر المعترضين على نشر الرواية، وكان من بينهم ثلاثة كتبوا التقارير أوصت بمصادرة الرواية ووقف نشرها وهم الشيخ محمد الغزالي والشيخ محمد أبو زهرة والشيخ أحمد الشرباصى. ذهب محفوظ فى الموعد المحدد ولكن لم يذهب الشيوخ الذين خشوا-ربما- من المواجهة، ودار حوار بين الخولى ومحفوظ انتهى الى اتفاق " جينتل مان" أنه بإمكان محفوظ نشر الرواية فى اى بلد عربي باستثناء مصر إلا بموافقة الأزهر. وافق محفوظ وظل ملتزما بالاتفاق ..معتبرا أن لديه فى الرواية رسالة لم تصل.. يقول: " شعرت أن رسالتى لم تصل فلم أسعى للدفاع عنها ولم اسع الى نشرها". رسالة محفوظ سياسية بالأساس ، فقد كانت "أولاد حارتنا" بداية مرحلة إبداعية جديدة فى حياته...مرحلة ما بعد الواقعية التى انتهت بالثلاثية التى شعر بعدها أن " الإطار الواقعى استنفد كل ما لديه من طاقة فنية" يري غالى شكرى أن النهاية الحزينة للثلاثية تقول بصراحة وجرأة أن هناك ازمة فى المجتمع ، وأن هذه الأزمة هى أزمة الحرية والتخلف الحضارى"...المرحلة الجديدة بدأت مع أولاد حارتنا انتهت هذه المرحلة مع هزيمة 67 .. وحسب غالي شكري:" نستطيع أن نتلقف معظم الأفكار الواردة فى " اولاد حارتنا" حول الوقف والبيت الكبير والجبلاوى والنظار والفتوات واخيرا عرفة والحنش، فى بقية الأعمال التالية ابتداء من اللص والكلاب وحتى ميرامار ، ولكننا حين نتلقف هذه الافكار الرئيسية سوف نشهد ما طرأ عليها من تغيير كبير يحول دون التعرف على الأصل البعيد". هل كان يقصد محفوظ أن لثوار يوليو طريقين: طريق الأنبياء وطريق الفتوات؟ وهل أدركوا رسالته؟ أم أن صراع الأجنحة داخل الدولة الناصرية انتهى فى تلك الفترة إلى انتصار الرجعية أو اليمين الدينى مبكرا. يقول محفوظ فى حوار معه ( جريدة القبس الكويتية - ديسمبر 1975): لا أكتب إلا إذا حدث انفصام بينى وبين المجتمع، أى إذا حدث عندى نوع من القلق وعدم الرضا، بدأت أشعر أن الثورة التى اعطتنى الراحة والهدوء بدأت تنحرف وتظهر عيوبها، بدأت تناقضات كثيرة تهز النفس، بدأت أشعر أن هناك عيوبا وأخطاء كثيرة تهز نفسي، وخاصة من خلال عمليات الإرهاب والتعذيب والسجن، ومن هنا بدأت كتابة روايتى الكبيرة " أولاد حارتنا" والتى تصور الصراع بين الأنبياء والفتوات. كنت أسأل رجال الثورة : هل تريدون السير فى طريق الأنبياء أم الفتوات؟".
جرت الرواية على محفوظ الكثير من المشكلات..إذ شن وزير الاقتصادآنذاك حسن عباس زكي هجوما شديدا على وزير الثقافة ثروت عكاشة لأنه أسند مهمة الرقابة لرجل " متهم في عقيدته الدينية" كما اتصل به مدير مكتب كمال الدين حسين يخبره بغضب الوزير على موافته على تحويل " أولاد حارتنا" الى مسرحية، ,وهو ما نفاه محفوظ الذى اوضح له أن المسرحية التى تعرض له مأخوذه من رواية " بداية ونهاية" وليست من " أولاد حارتنا"...وأمام هذا التصيد طلب ثروت عكاشة من محفوظ أن يترك جهاز الرقابة ويتولى مسئولية جهاز السينما، وهو جهاز جديد مهمته إعادنه نقابة السينمائيين، ودعم جوائز المهرجانات! لكن المدهش أن الرواية تحولت ألى مسلسل إذاعي عام 1970 بالاسم ذاته، وعرضته صوت العرب من بطولة سميحة أيوب وتوفيق الدقن وكريمة مختار. ولم يعترض أحد.
-9-
مع حصول محفوظ على نوبل تجدد الجدل مرة أخرى، وخاصة أن لجنة الجائزة أشارت فى تقريرها إلى الرواية باعتبارها" رواية البحث الأزلي للإنسان عن القيم الروحية" ..ليبدأ هجوم جديد على الرواية...فى الحفل الذى أقامه الرئيس مبارك لتكريم محفوظ ومنحه "قلادة النيل" أرفع وسام مصري، آثار عدد من المثقفين قضية منع " اولاد حارتنا"..وقال مبارك: ليس هناك ما يمنع نشرها ..وهو ما تحمس له وزير الثقافة آنذاك فاروق حسنى الذى أعطى تعليماته لهيئة الكتاب بالبدء فورا فى نشر الرواية طالما لا يوجد نص قضائى يمنع نشرها. المدهش أن اجتماعا لمجلس الوزارء فى 30 نوفمبر 1988 نوقش موضوع طبع الرواية ، وانقسم المجلس إلى فريقين ..فاروق حسنى المتحمس للنشر ..وعلى الجانب الآخر وزير الإعلام صفوت الشريف الذى رفض طبع الرواية ، وطلب عرض الموضوع على مبارك مرة أخرى، واستقر الرأى على منع الرواية. لا يتذكر فاروق حسنى هذه الواقعة، مؤكدا أنه هو ما أعطى أوامره لسمير سرحان لطبع الرواية بدون تدخل من مبارك، لكن جابر عصفور ويوسف القعيد اللذين شهدا تكريم محفوظ يؤكدان على صحة الواقعة. ويبدو أيضا أن لنظام يوليو فى مراحله المختلفة جناحان، ودائما ما ينتصر العنصر الأمنى اليمينى، حيث أصدر مجمع البحوث الأسلامية بعد يوم واحد من اجتماع مجلس الوزراء قرارا بدون أن يعرض عليه أى قرارا يجدد فيه منعه لصدور الرواية. هل كان صفوت الشريف وراء هذا المنع الثاني..وراء هذا التقرير؟ لا احد يعلم الإجابة ..
فى العام نفسه صدرت رواية سلمان رشدى " آيات شيطانية" ..,بعد عدة شهور أصدر الخمينى فتواه الشهيرة بقتل رشدى باعتباره مرتدا، وبعيدا عن موقف محفوظ من رواية رشدي..سئل عمرو عبدالرحمن مفتي الجماعة الإسلامية عن رأيه فى الرواية فأجاب:" لوأن الحكم بالقتل نفذ في نجيب محفوظ حين كتب لكان ذلك بمثابة درس بليغ لسلمان رشدي.."...
وكرره ما قاله فى العديد من الصحف وفى خطبته للجمعة..بصيغ أخرى:" لو قتلنا حفوظ من 30 سنه مكنش طلع سلمان رشدى". والغريب أن رجال الأمن المصري اتصلوا بمحفوظ لكى يخصصوا له حراسة خاصة، فرفض قائلا:
عبارة عمر عبدالرحمن ليست فتوى بالقتل، ولكنها جملة شرطية لأنه بيقول لو قتلنا محفوظ من 30 سنه". ولكن كانت فتوى عبدالرحمن بمثابة رسالة لقتل محفوظ..وهو ما استجاب له شاب عاطل، جاهل لم يقرأ لمحفوظ حرفا ليرتكب الجريمة فى يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994 ، وكان محفوظ يستعد لركوب السيارة متجهاً إلى ندوته الأسبوعية و طعنه في رقبته محدثاً جرحاً غائرا ًو لاذ بالفرار إلى أن تم القبض عليه و على المجموعة المشاركة في الجريمة. اعترف بأنه ارتكب الجريمة بسبب " أولاد حارتنا" التى لم يقرأها...وفى تحقيقات النيابة أعاد محفوظ التأكيد على هدفه من الرواية :" أولاد حارتنا مثل كليلة ودمنة ترسم عالما متصورا لتوحى بعالم آخر. فنحن بين الحيوانات عايشين فى غابة، لكن نحن نعرف والقارئ العادى يعرف إن قصدنا نقد البشرية ونظام الحكم والعلاقات بين الأفراد ، وحكمة الحكماء، وسفاهة السفهاء،ولكن مادام التزمنا ان احنا فى الغابة، فلازم يكون أبطالنا من الحيوانات، ولا نحاسب ونحن نعاملهم معاملة الحيوانات، لأننا نعامل المرموز له بالحيوان، وعلى نفس النمط أنا مشيت فى أولاد حارتنا، بأعرض فيها لمصريين فى حارة، وأسلوب حياتهم الظالم بكل ما فيه"... ويضيف محفوظ فى التحقيق معه:" هؤلاء ( يقصد قتلته) لا يقرأون القصص الأدبية بعين أدبية أو إنسانية تريد أن تعرف الحقيقة وصراع الخير والشر، المهم فى نظرهم أن العمل يكون خاضعا حرفيا لتعليمات الدين، وحتى فى ذلك هم يغالون، لأن الدين نفسه عرض قصة الخير والشر، وقصة عصيان إبليس على الذات الإلهية، وروايات كلها تدور حول مفاهيم واضحة، ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن يكون القصد منها التعرض لأى دين من أديان السماء، أو الازدراء به والقول باننى كافر او مرتد فيه افتراء". بعد أن أدلى محفوظ بأقوله طلب منه رئيس النيابة ان يوقع على اقوله، لكن اليد المصابة لمحفوظ لم تستطع امساك القلم، فأضطر وكيل النيابة أن يأخذ بصمة محفوظ!
ظل محفوظ على موقفه، متمسكا برفض نشر الرواية فى مصر تنفيذا لاتفاق " الجنتلمان" مع المبعوث الشخصى للرئيس عبدالناصر، بدون موافقة الأزهر، واعترض على قيام بعض الجرائد بنشر الرواية بدون الرجوع إليه، وبعد الحادث زاره محمد الغزالى الذى كتب أول تقرير طالب فيه بمنع الرواية ..كما طلب خالد محمد خالد أن يكتب مقدمة لها ..وبالفعل سأل محفوظ عدة أسئلة عن الرواية واجابه محفوظ عن ظروف نشر الرواية ...وفهم الأزهر لها :" الأزهر قرأها باعتبارها تاريخا وليس كونها عملا فنيا"... ولكن الرواية لم تصدر فى حياة محفوظ صدرت بعد رحيله ..بمقدمة لأحمد كمال أبوالمجد..كأنها صك براءة لاهوتية!
-10-
هذه بعض تفاصيل حكاية "أولادنا حارتنا "، هى حكاية الرقابة فى الوطن العربي، ولكنها الحكاية الكلاسيكية، المأساة التى يبدو تكرارها "قدرا" ..ولكنه قدر هزلى لم يعد "مثيرا" بقدر ما أصبح " نكتة هزلية " ... مثيرة للرثاء. الرقابة أصبحت ديناصورا منقرضا فى كل العالم.. أى شىء يمكن أن تمنع أو تسيطر أيها السلطوى؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.