لم تسمح روسيا بحدوث أمرين مهمين في الأزمة السورية: إقامة منطقة عازلة فوق سوريا وإضعاف نظام الأسد إلى حد السقوط. ولذلك كان التدخل العسكري الروسي في ٣٠ سبتمبر ٢٠١٥. على هذا الأساس حافظت روسيا على نظام الأسد بالقدر الذي يسمح لها، وليس له، بمساحة واسعة للمناورة، ويحافظ لها على مكانها في أي مفاوضات، ويحفظ لها نصيبها مقدمًا من الوجود في الداخل السوري، ومن ثم مشاركتها في صياغة المعادلة السورية بعد رحيل نظام الأسد أو تقليص وجوده في منطقة ما في حال فدرلة سوريا أو تقسيمها. منذ بداية التدخل العسكري الروسي في سوريا، كان من الواضح تمامًا أن روسيا لم تدخل لحماية الأسد شخصيًّا. ولكن وجوده كان ضروريًّا لإضفاء الشرعية التامة والكاملة على هذا الوجود. وكان الأسد يعرف جيدًا أن روسيا بحاجة إليه شخصيًّا لهذا السبب تحديدًا. ولذلك واصل عنجهيته واستعلاءه واستمر في سياساته التي شابها الانحراف والتطرف من جراء "التسخين" الإيراني، ومن أجل الحفاظ على معادلات داخل النظام نفسه، وإلا كان سيتم تصفيته على أيدي أعوانه والمستفيدين من وجوده. هكذا سارت المعادلة إلى أن بدأ الأسد يشعر أن قطار المفاوضات وتبادل الأوراق بين القوى الكبرى قد سبقه. وبالتالي، أصبحت مواقفه تميل إلى التشدد حتى مع الحليف الروسي. وذهبت الأمور إلى أنه قد بدأ يرفض الكثير من المبادرات السياسية، مما وضع روسيا في مواقف صعبة أمام الأطراف الكبرى الأخرى. وفي الوقت نفسه ظل يختبئ وراء ظهر روسيا التي ليس لديها لا الرغبة ولا القدرة على التورط في صدامات مباشرة أو غير مباشرة مع قوى كبرى أخرى، سواء كانت إقليمية أو دولية. ناهيك بأن جبهة أوكرانيا لا تزال مفتوحة، وهناك العديد من الجبهات الأخرى التي يجري تسخينها ضد روسيا. إضافة إلى العقوبات المفروضة عليها، وانهيار أسعار النفط. كل ذلك دفع موسكو إلى إعادة حساباتها، وحساب الربح والخسارة، وتحديد مساحة تحركاتها. وأصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوامره مساء الاثنين ١٤ مارس الحالي بسحب الجزء الأساسي من القوات الروسية بداية من ١٥ مارس، الأمر الذي سيغير بلا شك المعادلة برمتها في سوريا، وسيترك أثرًا كبيرًا على عملية التسوية السياسية، وسيعطي فرصة أمام الحل السياسي. ولكنه في نهاية المطاف سيؤدي إلى تداعي أركان النظام السوري، تمهيدًا لسفوطة، أو بتعبير دبلوماسي، رحيل نظام الأسد الذي ظل يغامر وفق مبدأ "إما كل شيء أو لا شيء" تارة، ووفق مبدأ "شعرة معاوية" تارة أخرى. لقد وضعت موسكو أمام الأسد كل المبادرات الممكنة لتليين مواقفه، ومحاولة تحقيق معادلة ذهبية تلبي مصالح موسكوودمشق، بما لا يضر بملفات روسيا الأساسية ومصالحها الأخرى، سواء مع الأوروبيين أو الأمريكيين، أو يضعف مواقعها في ملفات أكثر قربًا مثل أوكرانيا ومنطقة البحر الأسود. ولكن نظام الأسد الذي دأب على ابتزاز موسكو والاختباء وراء ظهرها، كان يحاول تطويع كل شيء لصالحه بصرف النظر عن المصالح الروسية، ويعتقد أنه هو الذي يدعم روسيا لا العكس. حتى عندما أركبه الروس طائراتهم وتوجهوا به إلى الكرملين للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لم يفهم الأسد مغزى اللقاء، وحاول أن يؤكد للعالم أنه باقٍ إلى الأبد، بينما الحليف الإيراني كان يفهم المعادلة جيدًا، فانكفأ على نفسه لحل مشكلاته وأزماته، وتطبيع علاقاته وملفاته العالقة، إلى أن نجح بدرجات متفاوتة. وفي الوقت نفسه كان يحافظ على خط الرجعة بوجود عسكري مباشر في سوريا أو عن طريق عناصر "حزب الله" التي تحارب إلى جانب قوات الأسد. على الرغم من أن الجميع يتحدث عن أن قرار بوتين كان مفاجأة، فإن القراءات الصحيحة للمواقف والتصريحات الروسية منذ مطلع فبراير ٢٠١٦ كانت تشير إلى أن موسكو قد حققت الهدف من وجودها العسكري بصرف النظر عن رضاء الأسد أو عدم رضائه. والآن، على دمشق أن تتخلى عن مواقفها المطاطة ومساوماتها وابتزازها وأن تدخل في حوار جدي مع المعارضة. علمًا بأن جزءًا من القوات الروسية سيبقى في سوريا لا لحماية الأسد، وإنما لحماية القاعدتين العسكريتين في "حميميم" و"طرطوس" وفقًا للاتفاقيات بين الجانبين. لقد أعلن وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير، عقب قرار بوتين، أن سحب القوات الروسية من سوريا سيدفع دمشق إلى بدء حوار سياسي جدي في مفاوضات جنيف، وأن ذلك سيمثل ضغطًا على نظام الأسد ليقدم، في نهاية المطاف، على المشاركة بكامل جديته في مفاوضات جنيف حول الانتقال السياسي الذي سيضمن الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، مع الأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع أطياف المجتمع السوري. أما التصريحات الروسية، فقد جاءت كالعادة مرنة وهادئة ودبلوماسية، إذ أعلن الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن "الحكومة الشرعية السورية ستواصل جهودها في مكافحة الإرهاب بعد سحب القوات الروسية من سوريا.. وأن قاعدة حميميم الصيفية والقاعدة البحرية في طرطوس ستبقيان". وامتنع بيسكوف عن الإجابة بشأن استفسار حول مصير منظومات "إس - ٣٠٠" الروسية، لكنه أشار إلى أن الرئيس بوتين أمر بضمان أمن حميميم "جوًّا وبرًّا وبحرًا". ومن الواضح أن القاعدتين ستبقيان تحت غطاء شرعي، ألا وهو "مراقبة تطبيق شروط وقف إطلاق النار في سوريا، وكذلك مواصلة التنسيق مع الأمريكيين وغيرهم من شركاء روسيا الأجانب" وفقًا لتعبير الناطق باسم الكرملين. علمًا بأن موسكو ستترك جزءًا من قواتها هناك. من جهة أخرى، أكد رئيس لجنة الدفاع والأمن في المجلس الفيدرالي الروسي فيكتور أوزيروف أنه من الممكن أن يبقى في سوريا نحو ١٠٠٠ عسكري روسي، بمن فيهم العاملون في قاعدتي، "حميميم" الجوية، و"طرطوس" البحرية. وذلك أخذًا بعين الاعتبار عدد العاملين في القاعدتين، إضافة إلى فرقة الحرس البحري وعدد من طائرات الاستطلاع. والمعروف أن المجلس الفيدرالي لم يحدد عدد العسكريين الروس عند مصادقته على إرسال الرئيس بوتين القوات الروسية إلى سوريا. أما النائب الأول لرئيس لجنة الدفاع والأمن في المجلس الفيدرالي فرانتس كلينتسيفيتش، فقد رأي أن قرار الرئيس الروسي قد تكون له أسباب سياسية وليس عسكرية فحسب. وشدد على أن روسيا لا تنوي "إحراق جميع الجسور والانسحاب من عملية إحلال السلام في سوريا، لا سيما من مكافحة الإرهاب الدولي"، مشيرا إلى أن روسيا قادرة على "العودة إلى سوريا في غضون يوم واحد وبجهوزية تامة، في حال تطلب الأمر". هناك انطباع بوجود تفاهم روسي - أمريكي بالدرجة الأولي. وهو يروق بالدرجة الأولى للسعودية التي تريد أكثر من ذلك. ولكن يبدو أن هناك ضغوطًا من موسكو وواشنطن على جميع الأطراف، بما فيها السعودية وإيران وتركيا والمعارضة، من أجل التوصل إلى حل وسط يحقق مصالح موسكو وواشنطن في المقام الأول. وعمومًا سيبقى جزء من القوات الروسية لحماية القاعدتين الروسيتين وفقًا لاتفاقات لا يستطيع الأسد إلغاءها، مما يعني أن روسيا استبقت الأمور وحددت مناطق وجودها نسبيًّا في سوريا ما بعد الأسد، التي لا يعرف أحد هل ستصبح فيدرالية أم سيتم تقسيمها. وسيرحل الأسد في أول فرصة ممكنة. هناك أيضًا انطباع بأن الأمور تجري لدفع الأسد إلى الرحيل بأقل الخسائر له وللأطراف الأخرى، ولكنه يتحرك كما ذكرنا سابقًا بين مبدأين "إما كل شيء أو لا شيء" و"شعرة معاوية"، وهو الأمر الذي يزعج ليس فقط موسكو. عدا ذلك، فقد يتم التخلص منه بطريقة أو بأخرى، حتى وإن كان على أيدي المحيطين به.