الآن، وقد خفتت أصوات كانت قد ارتفعت سعيًا إلى تعديل فورى فى الدستور, على نحو يمثل تهديدًا جديدًا لمستقبل مصر, وإهدارًا للإنجاز الوحيد لثورة شعبنا حتى اليوم، أصبح السؤال ملحًّا عن تفعيل هذا الدستور المحجوب عن الواقع منذ إصداره قبل ما يقرب من عامين (18 يناير 2014). والسؤال مطروح أيضًا بمناسبة قرب انتهاء انتخابات مجلس النواب، الذى سينعقد خلال الشهر المقبل، لأن الواجب الأول لهذا المجلس هو تفعيل الدستور. وهذا هو ما يحدث فى أى بلد فى العالم، حيث تكون المهمة الرئيسية لأول مجلس نيابى يُنتخب فى ظل دستور جديد هو تفعيل هذا الدستور عبر إصدار القوانين المكملة له، وتلك التى ينص على ضرورة إصدارها بشكل عاجل، فضلاً عن مراجعة المنظومة التشريعية فى مجملها لتنقيتها مما يخالفه وتعديل ما لا ينسجم معه أو يتعارض مع ما ينص عليه. وهذا هو دور أعضاء المجلس الذين يعرفون معنى العمل البرلمانى، والفرق بين البرلمان والمجلس المحلى. فعليهم أن يقودوا التحرك فى هذا الاتجاه، وأن يوضحوا لزملائهم الذين لا يعرفون ذلك أن واجب البرلمان الأول هو تفعيل الدستور. وينبغى أن يعرفوا أيضًا أن هذا الدستور هو أحد أفضل دستورَين فى تاريخ مصر، إلى جانب دستور 1923 فى زمنه وظروفه. ومما يتعين أن يعرفوه كذلك أن إحدى أهم مزايا هذا الدستور، الذى ضحى مئات الشباب بأرواحهم ودمائهم من أجل بعض ما يتضمنه، أنه يضمن قدرًا وفيرًا من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمصريين، وليس فقط حقوقهم وحرياتهم السياسية والمدنية. فالمحتوى الاجتماعى لهذا الدستور لا سابق له فى تاريخنا الدستورى. ولذلك أصبح استمرار تعطيله فعليًّا يمثل خطرًا يزداد كل يوم بمقدار ما تتفاقم الأزمة الاجتماعية التى لا تخطئها عين. وحسنًا أن خفقت الأصوات القليلة التى شنت حملة على هذا الدستور واللجنة التى وضعت مشروعه وزعموا أنها "تآمرت" لإصداره، بعد أن كان بعض أصحابها قد رقصوا ابتهاجًا به. فالسعى إلى تعديل الدستور الآن ينطوى على جريمة سياسية فى حق شعبنا الذى طال انتظاره لحقوقه الاقتصادية والاجتماعية التى يتضمنها هذا الدستور، خصوصًا فى ظل أزمة اجتماعية آخذة فى التفاقم ولا تحتمل تجميده لما لا يقل عن عام آخر، وربما أكثر، حتى يتم هذا التعديل ويجرى استفتاء عليه. فالفئات الأشد معاناة فى ظل هذه الأزمة هى الأكثر استفادة من الدستور. ولا يتسع المجال هنا لشرح كل الآثار الاجتماعية الإيجابية التى يمكن أن تترتب على تفعيل الدستور. ولكن يمكن أن نشير إلى بعض أهم ما سيعود على الفئات الأكثر معاناة، مثل العمال والفلاحين والصيادين وأصحاب المعاشات. ومن أهم ما يميز هذا الدستور صياغته الملزمة فى معظم مواده التى يضع فيها القواعد اللازمة لبناء مصر جديدة حرة على أساس من العدالة الاجتماعية، حيث يستخدم عبارة "تلتزم الدولة" بدلاً من عبارة "تكفل الدولة" فى الدساتير السابقة التى خلت كلها من معظم الأبعاد الاجتماعية الجديدة التى ترِد فيه للمرة الأولى. فبالنسبة إلى العمال، يُلزم الدستور الدولة ببناء علاقات عمل متوازنة بين طرفَى العملية الإنتاجية، وحماية العمال من مخاطر العمل، ويحظر بشكل بات الفعل التعسفى الذى انتشر وأصبح يمثل ظاهرة خطيرة. كما يضمن الدستور للعمال وغيرهم من العاملين الحق فى الإضراب السلمى. ويميز العمال بالحق فى التعدد النقابى وإنشاء نقابات واتحادات متعددة ومستقلة تمارس نشاطها بحرية، الأمر الذى يتعرض للانتهاك الآن عبر محاولات إعادة فرض الصيغة الأحادية فى العمل النقابى العمالى، على نحو يكرس إلحاقه بالسلطة وتبعيته لها. ولم يغفل هذا الدستور، ولأول مرة أيضًا، العمالة غير المنتظمة، حيث أدخلها فى نظام التأمين الاجتماعى وفرض توفير معاش لهم ضمن فئات اجتماعية أخرى محرومة من هذا الحق. أما الفلاحون الذين يعدون الآن، خصوصًا صغارهم، من أكثر فئات المجتمع معاناة نتيجة اختلالات السياسة الزراعية وتخبطها، والفساد المستشرى فى هذا القطاع، فقد أولى الدستور اهتمامًا فائقًا لهم. وإلى جانب إلزام الدولة بتنمية الريف ورفع مستوى معيشة سكانه، وحماية الفلاح والعامل الزراعى من الاستغلال، يُلزم الدستور الدولة بتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعى والحيوانى التى تمثل أحد أشد جوانب المعاناة فى الريف المصرى الآن، وشراء المحاصيل الزراعية الأساسية بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح. كما يضمن الدستور فى حالة تفعيله حصول صغار الفلاحين والشباب على نسبة من الأراضى المستصلحة، ويؤكد حقهم وكذلك العمال الزراعيين فى الحصول على معاش مناسب. ومن مستجدات هذا الدستور على صعيد العدالة الاجتماعية أيضًا الاهتمام بالصيادين للمرة الأولى فى تاريخ مصر الدستورى، ويضع أساسًا لحمايتهم فى مجال عملهم، ويُلزم الدولة بتوفير معاش مناسب لهم بدورهم. وفضلاً عن توسيع مظلة الرعاية الاجتماعية لتشمل كل هذه الفئات المحرومة منها الآن، يولى الدستور اهتمامًا غير مسبوق لأصحاب المعاشات المهدرة حقوقهم، ويضمن حماية أموال التأمينات المهددة بخطر فادح. فرغم أنها تعد أموالاً خاصة، فقد ألزم الدستور الدولة بأن توفر لها جميع أوجه وأشكال الحماية المقررة للأموال العامة. ولذلك يستطيع "عمنا البدرى فرغلى" والقائمون على اتحاد أصحاب المعاشات التوجه إلى نيابة الأموال العامة، للتحقيق فى وضع هذه الأموال، فى حالة تفعيل الدستور عبر إصدار تشريع جديد فى هذا الموضوع وغيره مما سبق ذكره. كما يُلزم الدستور بإنشاء هيئة مستقلة لإدارة أموال التأمينات الاجتماعية، الأمر الذى يتيح لممثلي أصحاب المعاشات دورًا مباشرًا فى حمايتها والسعى إلى زيادتها عبر استثمارها فى مجالات آمنة، وفق المادة 17 التى لم ينتبه إليها هؤلاء الممثلون حتى الآن. وفى هذا الدستور المعطل فعليًّا حتى الآن ضمانات لحقوق نحو ثمانية ملايين مصرى من ذوى الإعاقة فى إطار رؤية لدمجهم فى المجتمع، ولحقوق نحو عشرة ملايين آخرين يعيشون فى الخارج على نحو يتيح إشراكهم فى النهوض بوطنهم بصورة فعلية فى الواقع، وليس فى الخُطب والشعارات. وفضلاً عن هذا كله، يمثل الدستور الحالى نقلة نوعية فى مسألة الخدمات الاجتماعية الأساسية، وفى مقدمتها تلك التى ترتبط بتنمية مصر ونهضتها مثل الصحة والتعليم. فقد ألزم الدستور الحكومة بتخصيص نسبة محددة من الناتج القومى الاجمالى للإنفاق على التعليم والبحث العلمى والصحة (4 % للتعليم العام، و2% للتعليم الجامعى، و1% للبحث العلمى، و3% للصحة)، على أن تزداد تدريجيًّا حتى تصل إلى المعدلات العالمية فى كل هذه المجالات. فلا مستقبل لمصر مهما كانت الشعارات الرنانة والأغاني الحماسية والخطب الوطنية، دون بناء نظام تعليم حديث أو حتى تعليم حقيقى، وتحقيق طفرة فى البحث العلمى الذى يمثل ترتيب مصر فيه على الصعيد العالمى فضيحة كبرى (128 من بين 148 دولة وفق تقرير حديث صادر عن الأممالمتحدة). كما يصعب تصور بناء مصر جديدة مدنية حديثة ديمقراطية وفق ما ينص عليه الدستور، اعتمادًا على مواطنين يعاني معظمهم أمراضًا متفاوتة بعضها شديد الخطر، ومن هنا أهمية إلزام الدستور للدولة بإقامة نظام تأمين صحي شامل لجميع المصريين يغطي كل الأمراض، وتحسين أوضاع الأطباء وغيرهم من العاملين في هذا القطاع، وإلى أن يتحقَّق ذلك يحظر الدستور الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة. وهذا هو الهدف من زيادة الإنفاق على الصحة، إلى جانب التعليم والبحث العلمى، على النحو الذى أوضحناه. ولكن سلطة الدولة لا تعترف حتى الآن بالدستور الذى يمثل أساس شرعيتها، والذى انتخب رئيس الجمهورية وفقًا له، وتتركه فى مكان غير معلوم وتتصرف كما لو أنه لم يصدر أصلاً، ولا تلتزم بأى من الضمانات الاجتماعية والاقتصادية التى يُلزمها بها هذا الدستور مثلما تضرب عرض الحائط بالحقوق والحريات السياسية والمدنية الواردة فيه بشكل إلزامى. ولنأخذ مثالاً واحداً، وهو الإنفاق على الصحة وما ينطوى عليه من مؤشرات. فالملاحظ أن الحكومة لم تهتم للعام الثانى على التوالى بما يلزمها به الدستور وهو (تخصيص نسبة من إنفاق الحكومة للصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية). فلا تزال مخصصات الصحة فى الميزانية الحالية أقل من 2% (8,1% على وجه التحديد). ويعنى ذلك عدم حدوث أى زيادة فيه، الأمر الذى يؤدى إلى انخفاض فعلى نتيجة التضخم المتزايد. ومرجعنا هنا هو تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الذى أوضح أن التضخم ارتفع بنسبة 8,2% خلال أغسطس الماضى. ولكن ارتفاع أسعار الخدمات الصحية العامة أكبر بكثير (4,14% لخدمات العيادات الخارجية، و4,7% لخدمات المستشفيات). ويعنى ذلك أن ثبات الإنفاق الحكومى على الصحة يعنى فعليًّا حرمان أعداد إضافية من المصريين من العلاج، فضلاً عن دلالته على انتهاك الدستور. وليس هذا إلا مثالاً واحدًا على العواقب الوخيمة المترتبة على عدم تفعيل هذا الدستور وحرمان شعبنا من الإنجاز الوحيد الذى تحقق منذ ثورة 25 يناير، والذى يتيح إخراجه إلى النور وتطبيقه تحقيق بعض أهم مقومات العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الإنسانية.