لم يتوقف بعد سيل الجدل في مصر حول أزمة سقوط الطائرة الروسية في سيناء في اليوم الأخير من الشهر الماضي. يسيطر حديث المؤامرة على التغطية الإعلامية للحادثة، ويحضر بدرجات متفاوتة في مواقع التواصل الاجتماعي. ويخفت فى المقابل صوت العقل، فيقل الاهتمام بالبحث في أبعاد الأزمة وتداعياتها وكيفية استيعاب دروسها والحد من آثارها السلبية. ورغم أن الهجمات الإرهابية في باريس، بعد أسبوعين تقريبًا على حادثة الطائرة الروسية، فتحت مساحة أوسع قليلا للتفكير، فقد ظل حديث المؤامرة غارقًا في رسم صورة مؤداها أن حادث الطائرة استُغل لفرض حصار على مصر. وحديث المؤامرة ليس جديدًا في مصر، ولكنه انتشر على نطاق واسع في العامين الأخيرين في ظل خطابين رسمي وإعلامي يتوجهان إلى العاطفة ويغفلان العقل، ويحتقرانه أحيانًا. ولذلك فما أن أخذ احتمال إسقاط الطائرة نتيجة عمل إرهابي يزداد حتى انطلق حديث المؤامرة مجلجلاً فور إعلان بريطانيا قرار وقف الرحلات الجوية إلى مطار شرم الشيخ مؤقتًا. ولكي ييدو الأمر كما لو أن هناك مؤامرة، كان لا بد من إقحام واشنطن فيها لمجرد أن الرئيس الأمريكي تحدث عن احتمال وجود عمل إرهابي، رغم أنها لم توقف أي رحلات إلى مصر، ولم يمض يومان حتى صارت روسيا هي الدولة الثانية التي أوقفت رحلاتها الجوية إلى مصر، قبل أن تمنع رحلات "مصر للطيران" إليها أيضًا، وأربك هذا الموقف الروسي روايات المؤامرة، ولكن من دون أن يدفع إلى التفكير خارج إطارها، فقد بحث البعض عن مبررات لهذا الموقف لا تخلو من سذاجة، من نوع أن الرئيس بوتين مضطر إليه في مواجهة مؤامرة غربية تهدف إلى إسقاطه. غير أن حديث المؤامرة بدا في ذروة تناقضه حين تحولت روسيا في بعض رواياته الأخرى من قوة دولية حليفة تواجه شياطين الغرب المتواطئ مع "الإخوان" إلى واحدة من هذه الشياطين. وازداد هذا الاتجاه الثاني في روايات المؤامرة بعد أن جزمت روسيا الثلاثاء الماضي بحدوث عمل إرهابي تسبب في إسقاط الطائرة.
وهكذا نقل التطور السريع في موقف روسيا روايات المؤامرة من الاستهانة بالعقل إلى حال الاستحالة العقلية وفق المفهوم "الخلدوني"، فصارت النتائج مناقضة تمامًا للمقدمات بعد أن كانت غير منسجمة معها. وحين يبلغ الانشغال بنسج روايات المؤامرة أعلى مبلغ على هذا النحو، تصبح الأسئلة اللازمة لفهم الأبعاد الدولية للحادثة مثيرة للضجر، لأنها تدفع إلى التفكير العقلاني. وما بين ما يمكن أن يفكر فيه من يسعى إلى الفهم مغزى زيادة بريطانيا استثماراتها في مصر، وهي المتهمة بتخريب اقتصادها عبر ضرب السياحة، وكيف تكون واشنطن شريكة في مؤامرة (لا يعرف أحد كيف) في الوقت الذي يقترب الكونجرس من إقرار المساعدات الأمريكية لمصر للعام المالي القادم (1,3 مليار دولار) من دون أن تنقص سنتًا. والمفترض أيضًا أن يفكر من يريد الفهم في الظروف التي دفعت بريطانياوروسيا دون غيرهما إلى كل هذا الحذر، والبحث فيما إذا كان طبيعيًّا أن تثير حادثة الطائرة قلقهما لأن مواطنيهما الذين يزورون مصر لغرض السياحة هم الأكثر عددًا في العالم.
وتفيد الوقائع أن ردود فعل الدولتين ظلت روتينية بانتظار نتيجة التحقيق إلى أن توفرت لدى الاستخبارات البريطانية بعد أربعة أيام على الحادثة ما رأته معلومات أولية، تدعم احتمال حدوث عمل إرهابي أدى إلى تفجر الطائرة. ولما كانت هذه المعلومات تضمنت، وفق ما يتوفر عنها حتى الآن، تورط بريطانيين انضموا إلى "داعش" فيه، فقد أثارت قلقًا بالغًا في لندن. ولذلك فليس غريبًا أن توضع هذه المعلومات على وجه السرعة أمام رئيس الحكومة البريطانية الذي اتخذ قرارًا فوريًّا بوقف الرحلات الجوية إلى مطار شرم الشيخ بصورة مؤقتة.
والحال أن أي صانع قرار يجد نفسه في وضع بالغ الصعوبة حين يواجه موقفًا ينطوي على تهديد خطير، وخاصة حين يطغى الهاجس الأمني على التقدير السياسي. وربما وقع كاميرون تحت ضغط هذا الهاجس، مثلما حدث للرئيس الروسي بوتين بعد ثلاثة أيام خلال اجتماع مجلس الأمن القومي الذي انتهى بإصداره قرار وقف الرحلات الجوية إلى مصر بوجه عام، وليس إلى شرم الشيخ فقط. وقد يكون كاميرون خشي التداعيات السياسية الداخلية في حال تفضيله إرجاء إعلان قراره حتى وصول الرئيس السيسي الذي كان في طريقه إلى لندن، خاصة إذا نال خصومه منه على أساس أنه تردد في اتخاذ قرار لا يحتمل أي تأخير. ولكن الهاجس الأمني يظل هو المهيمن في مثل هذه الظروف. ولعل أكثر ما يثير الاستغراب في روايات المؤامرة هو أنها تستبعد أثره في الموقف البريطاني بصفة خاصة، رغم أن الكثير من أصحاب هذه الروايات غارقون في هواجس أمنية بعضها مصنوع لتبرير تضييق المجال العام في مصر. فقد كان القرار البريطاني ثم الروسي مدفوعين بعاملين: أولهما التأكد من سلامة الإجراءات الأمنية في مطار شرم الشيخ. فالهاجس الأمني يفرض مراجعة هذه الإجراءات مجددًا وعدم الاكتفاء بتقارير منظمة الطيران العالمية التي تحظى فيها المطارات المصرية بترتيب متقدم. أما السبب الثاني فهو السعي إلى معرفة مدى القدرات التي اكتسبها "داعش" في مجال "الإرهاب الجوي"، وحدود التهديد الذي يمكن أن يترتب عليها، خاصة في ظل انضمام عدد غير قليل من البريطانيين والروس إليه.
وهكذا يقود أي تفكير هادئ على هذا النحو إلى إدراك عدم وجود شيء غير طبيعي في تعاطي كل من بريطانياوروسيا مع أزمة الطائرة، وفهم القواسم المشتركة الغالبة في موقفيهما رغم الاختلاف في مستوى علاقات كل منهما مع مصر.
وإذا كان انتشار روايات المؤامرة على هذا النحو كشف مدى أزمة العقل في المجتمع، فقد أظهرت الحادثة التي أنتجتها مدى انكشاف الاقتصاد المصري وهشاشته واعتماده على عوامل خارجية من أهمها موارد السياحة. فقد ارتبطت روايات المؤامرة، في أحد جوانبها، بفزع من تراجع هذه الموارد في غياب بديل عنها. ولو أن العقل العام في حال طبيعية لكان هذا الانكشاف الاقتصادي الزائد على أي حد هو موضع الاهتمام كله من زاوية أنه أشد خطرًا من أية مؤامرات يمكن تخيلها، ولصارت مراجعة السياسات التي تسببت فيه هي محور الجدل العام حول أزمة الطائرة الروسية.