لم يكن الهدوء الروسي في التعامل مع حادثة سقوط الطائرة الروسية في الأجواء المصرية، مجرد رد فعل بارد أو غير مسؤول، بل حكمة في التعامل مع هذه الأحداث الضخمة من أجل الوصول إلى الأسباب الحقيقية والتعامل بموضوعية ومهنية معها، وعدم التسرع تفاديًا للإضرار بعلاقاتها بالدول الأخرى. كان من المتوقع أيضا أن تكون هناك مطالب ما لروسيا، خاصة أنها أوقفت تحليق رحلاتها الجوية إلى مصر، وكذلك رحلات شركة مصر للطيران إلى موسكو، وأعادت مواطنيها الذين يعملون أو يقضون العطلات في المنتجعات المصرية. كل ذلك كان أمرًا طبيعيًّا لمواجهة أي احتمالات لوجود أخطار وتهديدات للمصالح الروسية أو لمواطنيها. ولكن سرعة الإجراءات وصرامتها كانت ملفتة بعض الشيء في ضوء الأحداث والترتيبات الإقليمية والدولية، وتحركات روسيا الأمنية في المنطقة على مستوى إقامة مراكز تبادل المعلومات والتنسيق الأمني مع بعض الدول مثل العراقوالأردن. وفجأة صرح نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف أن روسيا مستعدة لإنشاء مركز تنسيق لمكافحة الإرهاب بالتعاون مع مصر، على غرار ما تم إنشاؤه في بغداد وعمان، لكن لم يتم الاتفاق على ذلك بعد. وذكر أن مراكز تنسيق أنشئت في كل من العراقوالأردن، مشيرا إلى أن الجانب الروسي اقترح على مصر ذلك، وأنها أعربت بدورها عن استعدادها لهذه الخطوة. ووفقا لأقواله فإن موسكو ترى ضرورة مشاركة الجميع، من المملكة العربية السعودية وإيران وسنة وشيعة، في مكافحة الإرهاب. وأضاف بوجدانوف "هناك اتفاق بشأن الأردن، لكن لم يتم الاتفاق حتى الآن بشأن مصر. لكننا نملك اتصالات وثيقة على أعلى المستويات على الصعيد الثنائي". هكذا جاءت تصريحات بوجدانوف لتؤكد بعض القلق الذي يحيط بتحركات روسيا في المنطقة، وأن الأمور لا تسير على خطوط مستقيمة من حيث الوضوح والشفافية، بل في خطوط متعرجة بشكل يثير التساؤلات والشكوك، وربما الغضب. إلى جانب هذه التصريحات، أعلن بوجدانوف أيضًا أن موسكو لا تعتبر "حزب الله" و"حماس" وحزب الوحدة الديمقراطي في سوريا منظمات إرهابية. وقال إن "البعض يقول إن حزب الله منظمة إرهابية. نحن نجري اتصالات ونبني علاقات معهم، لأننا لا نعتبرهم منظمة إرهابية. إنهم لم يرتكبوا أي أعمال إرهابية في أراضي روسيا. والشعب اللبناني انتخب حزب الله في برلمان البلاد وهناك أعضاء في الحكومة ووزراء عن حزب الله في لبنان. إنها منظمة سياسية شرعية... وكذلك حماس. فالأمريكيون يعتبرونها منظمة إرهابية، إلا أننا لا نتفق مع ذلك لأنهم جزء من المجتمع الفلسطيني... كما أن موسكو تعتبر حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا منظمة سياسية شرعية، وأن موسكو تجري اتصالات مباشرة مع هذا الحزب. كما أن واشنطن هي الأخرى تساعد هذا الحزب". المسؤول الروسي الكبير يرى أنه طالما لم تقم هذه المنظمة أو تلك بتنفيذ عمليات إرهابية في روسيا أو ضدها، فهي لا تعتبر منظمة إرهابية. وذلك بصرف النظر عن قيام هذه المنظمات بتنفيذ عمليات تضر بمصالح دول أخرى. وبالتالي، فمن الواضح أن روسيا هنا تختلف مع أطراف وأصدقاء وحلفاء بشأن مفهوم الإرهاب. ولا شك أن هذا الفهم الروسي للمنظمات الإرهابية ينطبق أيضًا على الأطراف الغربية، بما فيها تركيا. وفي نهاية المطاف نجد أننا أمام معضلة لتعريف الإرهاب والمنظمات الإرهابية. وهو الأمر الذي لا يزال يقف دون حل أمام الأممالمتحدة والمجتمع الدولي، وتتلاعب به الدول الكبرى، وخاصة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن. تصريحات بوجدانوف تزامنت مع تصريحات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين يعلن فيها أن التحقيقات بشأن سقوط الطائرة الروسية في مصر قد أصبحت في مراحلها الأخيرة. وبعيدًا عن نظرية المؤامرة، فمن الواضح أن موسكو تمنح القاهرة بعض الوقت للتفكير جديًّا في قبول العرض الروسي بإقامة "مركز تنسيق لمكافحة الإرهاب" في مصر، وربط مصر بالعراقبالأردنبسوريا بإيران، لأن المركز الذي أقيم في بغداد يضم العراقوروسياوسوريا وإيران. إن مصر الآن أمام اختيارات صعبة تتعلق بعلاقاتها الإقليمية والدولية، كما تتعلق أيضًا بمكافحة الإرهاب، وبموضوعات اقتصادية، على رأسها قطاع السياحة: - العلاقات مع السعودية ودول الخليج قد تتعرض لأزمة في حال موافقة مصر على المقترحات الروسية، التي تظهر كشكل من أشكال الضغوط الناعمة. - التزامات مصر الأمنية في مناطق معينة وإزاء أطراف إقليمية لها مصالح في مصر، وتوجد لمصر مصالح فيها. - ارتباط مصر بدول غربية أخرى، انطلاقًا من مبدأ تنويع العلاقات والمصالح، وعدم اقتصار العلاقة على روسيا. - خضوع مصر للضغوط الروسية الناعمة قد يسبب لها مشكلات داخلية وإقليمية ودولية. ومن الممكن أن تعلن روسيا أنها لا تبدي أي ضغوط على مصر، وإنما تقترح عليها التعاون في مكافحة الإرهاب. ومن المتوقع أن تنفي موسكو وتنكر أن ما طلبته من القاهرة في ظل ظروف وقف السياحة والطيران، هو ضغوط أو ابتزاز. كما أن إطلاق بوتين تصريحه بأن التحقيقات في مراحلها الأخيرة تزامنًا مع تلك الضغوط والابتزازات، هو بحد ذاته شكل من أشكال الضغط والابتزاز. إن روسيا تتعاون مع مصر أمنيًّا وعبر قنوات محددة. ولم ترفض مصر أي تعاون أمني مع روسيا عبر تلك القنوات. لكن طلبات روسيا الآن، أو بالأحرى ضغوطها، تستند إلى عدة أمور، منها ورقة السياحة والتحليقات الجوية، إمكانية استخدام نتائج التحقيقات في التأكيد على أمور تشكل نوعًا من الضغوط أو الابتزازات للسلطات المصرية. من الواضح أن روسيا تلعب بأوراق مهمة ضد جميع دول المنطقة، وعلى رأسها مصر والسعودية وتركيا. وتحاول عبر ضغوط ناعمة انتزاع مصر من شبكة مصالحها لوضعها في شبكة أخرى تضم سوريا وإيران والعراقوالأردن ومنظمات مثل حماس وحزب الله. وذلك على الرغم من أن مصالح مصر قد تتعارض مع هذا الطرف أو ذاك، ولكن موسكو قررت أن تلعب على نفس النسق الأمريكي، متجاهلة أن القاهرة تقف عند خطوط تنوع العلاقات والمصالح. قد تكون هناك مسافات أقرب أو أبعد من هذا الطرف أو ذاك، ولكن هذه المسافات لا تتلاشى، ولا تصل حتى إلى اللعب داخل أحلاف. فمصر بطبيعتها التاريخية والاجتماعية والجغرافية لم تكن من هواة الانضمام إلى الأحلاف أو حتى إقامتها. وهو الأمر الذي قد ترتكب موسكو فيه أخطاء كثيرة بعدم فهمه أو مواصلة إصرارها على الضغط والابتزاز، وستخطئ القاهرة أيضًا في حال استجابت لموسكو أو تجاوزت الخطوط الحمراء المتعلقة بطبيعتها التاريخية والسياسية والاجتماعية والجغرافية. إن روسيا ترتكب الآن أحد أخطر الأخطاء في سياساتها تجاه مصر عبر الضغوط الناعمة التي لا تختلف عن الابتزاز إلا في الشكل فقط.