من الاستسهال الرد على الشبهات التى تثيرها دول غربية حول أسباب سقوط الطائرة الروسية بمنطق "وانت مالك"، كما رددت أبواق من إعلامنا الذى لا يجيد الانتصار للدولة كدولة فى أى معركة حقيقية، ويكتفى فقط بالتهليل الفج، واستهداف الداخل بإفساد كل قيم الحقيقة والمنطق، ليبقى الرأى العام مؤهلاً لاستقبال أى زعم وتصديق أى وهم، والمساهمة فى الدفاع عن أى معلومات مختلقة. هذا هو الفخ الذى نصبه الإعلام لجمهوره، فوقع فيه بانكشاف واضح أثبت خلاله عجزه عن صياغة أى خطاب عاقل يمكن أن ينقله عنه العالم. يتحدث إعلامنا عن المؤامرة، ذات الشواهد، ويدين استباق نتائج التحقيقات، وهو ذاته الإعلام الذى يدين فى الداخل كل "متهم لم تثبت إدانته" ويستبق كل التحقيقات، ويتولى دور المحقق والقاضى، حتى إنه يدين أناسًا بالخيانة والعمالة دون تحقيقات من الأصل، ودون أن توجه لهم السلطات ذات الشأن أى اتهام من أى نوع. كيف يمكن لإعلام يستبق نتائج التحقيقات أن يدين استباق نتائج التحقيقات، حتى لو كانت هذه الإدانة تحمل كل المنطق والحق؟ هذا إذن إعلام لا يُعول عليه من الأصل لذلك ظل خارج المعادلة فى مثل هذه القضية، سمعته تسبقه، وخطاياه تتجاوز فى تأثير حدود الشارع المغيب، لتصبح فى العالم نمطًا للممارسة التعبوية الفجة المنطلقة بانفلات يكسر كل الحدود الدنيا فى المنطق الإعلامى. لذلك وبذات منطق الاستسهال، تحدث أحدهم عبر شاشته بمنطق "أنا راضى وأبوها راضى" مستندًا إلى أن مصر تنفى وروسيا تنفى، وربما هذا يكفى من وجهة نظره أن يقول لأى طرف ثالث "وانت مالك؟". لكن هذا المنطق لن يُنقذ شرم الشيخ من تداعيات كل ما جرى، لأن كل دولة لها طائرة تمر من هنا، أو سائح يدفع دولارًا واحدًا هنا، لها بالضرورة مصلحة فى كشف ملابسات الحادث وفى الاطمئنان على سلامة مواطنيها، بما يجعل من غير الممكن أن تقول لها "انت مالك". لكنك هنا لا تواجه معلومات يجرى تبنيها رسميًّا أو بشكل شبه رسمى، وتمريرها للإعلام لمجرد الحرص على المواطنين، ما لديك من شبهات سياسية يشير إلى أن تلك لافتة أو عنوان للاستهلاك الإعلامى، لكن ما بين السطور محاولات سياسية للضغط على مصر وروسيا، إما بسبب تقاربهما، أو بسبب الدور الروسى فى سوريا الذى يمثل دافعًا لدى الإرهابيين لاستهداف الطائرات الروسية، رغم أنه وللغرابة فإن التحالف الغربى يضرب أيضًا مواقع هؤلاء فى سوريا أو هكذا يُعلن، ولم يحدث استهداف لطائرات ركاب بريطانية أو أمريكية. الدول المسؤولة، والإعلام المسؤول لا يجب أن يتحدث بلغة ربما ويبدو ونرجح، خاصة فى قضايا ذات تأثير واضح قد تتسبب فى الإضرار البالغ بدولة ومنطقة واستثمارات وبشر يعيشون ويعملون. هنا الكلمة لها حساب، لا يجب أن يزعجنا رسميًّا أية معلومات أو ترجيحات مخابراتية غربية، إن كانت وصلت بالطريقة المعتادة عبر تبادل معلومات فى سياق تحالف دولى لمكافحة الإرهاب، لأن التحقيقات الجارية من مصر وروسيا تهدف إلى الحقيقة، والحقيقة لا يمكن إخفاؤها فى مثل هذه الظروف طويلًا. لكن تسويق المسألة إعلاميًّا بهذا الشكل وكأن ما يقال إنها ترجيحات هى الحقيقة المطلقة قد يثبت إن الهدف سياسى بحت. هنا من حق كثير من المصريين أن يغضبوا، وأن يشعر المهددون فى أرزاقهم بشرم الشيخ ببالغ القلق، لكن كيف تصدق أن إعلاميين فى مصر غاضبون لأن أحدًا فى العالم استبق نتائج التحقيقات، وحاول أن يضغط إعلاميًّا لتثبيت قناعة محددة فى أذهان الرأى العام غير مستندة لدليل حتى الآن. يرفع هؤلاء عناوين الحرص على مواطنيهم وهم يتحدثون عن استهداف الطائرة بقنبلة، كما يرفع إعلاميونا عناوين الدفاع عن الدولة الوطنية ومكافحة الإرهاب وهم يستهدفون خصومهم وخصوم من يحركونهم باتهامات الخيانة، فيما السياسة وضغوطها وتصفية حساباتها هى الهدف الأساسى للجميع. استبق الأمريكان والبريطانيون نتائج التحقيقات فى قضية الطائرة، واستبق إعلاميونا مئات التحقيقات، وكالوا الاتهامات ونالوا من اعتبار أشخاص ومؤسسات، قبل أن تنتهى تحقيقات وقبل أن تبدأ فى أحيان كثيرة، وبدعم مباشر وغير مباشر من الدولة أو أجهزة فيها. ربما تدفع شرم الشيخ ومستثمروها والعاملون فيها ثمنًا فادحًا لممارسة غير مسؤولة سياسيًّا وإعلاميًّا، وهناك أثمان فادحة دفعها مواطنون آخرون بفعل استهدافهم أو استهداف أعمالهم ومؤسساتهم وأرزاقهم بحملات تحريض واتهام غير مستندة لتحقيقات، تحول فيها الإعلامى إلى سوط غير رسمى، يمارس الترغيب والترهيب، ويصفى الحسابات ويعاقب القاصى والدانى، ويوزع الاتهامات دون تحقيقات أو محاكمات بعد أن صار هو المحقق والقاضى. وها هو ذات الصنف من الإعلاميين يدين بدهشة استباق نتائج التحقيقات فى قضية الطائرة الروسية، ويبكى ويتباكى على الوظائف التى توفرها شرم الشيخ للمواطنين والمهددة بالضياع، وكأنه لم يرتكب ذات الجرم يومًا، وكأننا لا نذوق ذات الكأس التى نعب منها منذ سنوات، لكن هذه المرة الضربة أكثر مرارة.