نصح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بالانتظار والتروي لحين ظهور نتائج التحقيقات في سقوط طائرة الركاب المملوكة لشركة روسية خاصة في الأجواء المصرية. جاء ذلك خلال اتصال هاتفي بين بوتين وكاميرون، حيث كان الأخير قد أعلن أنه سوف يقوم بالاتصال مع بوتين لمناقشة كارثة الطائرة الروسية. وأفاد الكرملين بأن الطرفين الروسي والبريطاني تبادلا الآراء بهذا الصدد، فيما أشار بوتين على كاميرون بضرورة الاعتماد على المعلومات الصادرة في سياق التحقيق الرسمي الجاري في تقييم أسباب كارثة الطائرة. هذا الاتصال الذي بادر به كاميرون جاء بعد تصريحات، أثارت دهشة الأوساط السياسية والدبلوماسية، أدلى بها كل من وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند ورئيس وزرائه ديفيد كاميرون، لتكون بريطانيا أول دولة تعلن رسميًا انحيازها لإحدى الفرضيات في سقوط طائرة الركاب. إذ دفع هاموند، في أول تصريح لأول مسؤول في العالم بهذا الحجم، بفرضية الإرهاب وإمكانية انفجار قنبلة على متن الطائرة المنكوبة. وقال إن "هناك احتمالا قويا بأن يكون تنظيم داعش ضالعًا في تحطم الطائرة الروسية". وأوضح أن الاستخبارات البريطانية أخذت بعين الاعتبار ما أعلنه التنظيم عن تبني الهجوم، كما أنها درست معلومات كثيرة أخرى حتى وصلت إلى هذا الاستنتاج. وعلى الفور التقط رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون كلمات وزير خارجيته المثيرة للجدل، وقال هو الآخر إنه "يرجح وقوع تفجير قنبلة وراء كارثة الطائرة الروسية فوق شبه جزيرة سيناء المصرية فرضية ذات مصداقية". ولكنه عاد ليقول إن "بريطانيا لا يمكن أن تكون على يقين ثابت بأن الهجوم الإرهابي هو الذي أدى إلى كارثة الطائرة الروسية، لكن ما دام احتمال وقوع ذلك كبيرًا، كان علينا أن نتصرف بسرعة". وبالتالي، اعتبر المراقبون رد بوتين، أو نصيحته، تقريعًا لرئيس الوزراء البريطاني الذي تعجل هو ووزير خارجيته ليعلنا انحيازهما لرواية، لا يرجحها الروس أنفسهم، بل يضعونها بين روايات وفرضيات أخرى تستحق البحث. ولاحظوا أن الطرف الروسي التزم العقلانية وضبط النفس، بل ودعا إلى عدم التعامل بجدية مع التصريحات والفرضيات التي يطلقها غير الخبراء والمتخصصين. في حين أجمعت كل التصريحات الروسية الرسمية على توجيه رسائل إنسانية ومهنية لوسائل الإعلام بعدم الانجرار وراء السبق الصحفي الذي لا يمتلك أي جذور في الواقع، للحفاظ على ذكرى الضحايا وحقوقهم، وعلى مشاعر وأحاسيس ذويهم وأقاربهم، وكذلك من أجل التوصل إلى أسباب الكارثة، ومن ثم التعامل معها بما يتطلبه الموقف. مراقبون رأوا أن التصريحات الملتبسة من مسؤولين كبيرين في دولة كبرى، أثارت الكثير من الجدل، خاصة وأنها صدرت في اليوم الثاني لزيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى بريطانيا. ورجحوا وجود حسابات سياسية ما بين لندنوالقاهرة، أو أن بريطانيا تمارس نوعًا من الضغوط على مصر لأسباب سياسية أو أمنية. وذهبت تقارير إلى أن لندن تمارس عملية ابتزاز سياسي على عدة محاور تمهيدًا لطرح مبادرات ما تتعلق بدور مصر في عدد من ملفات المنطقة. واستخدم كاميرون وهاموند حادث الطائرة ليعلنا منع تحليق الطائرات البريطانية فوق شبه جزيرة سيناء، بل ومنع الطيران البريطاني من التوجه إلى شرم الشيخ. وفي الوقت نفسه لا يخفى على المتابعين أيضًا أن بريطانيا تحديدًا تمثل الملاذ الآمن لقادة الجماعات والتنظيمات المتطرفة ليس فقط الموجودة في الشرق الأوسط، بل وفي آسيا الوسطى والقوقاز وشرق آسيا. المثير هنا أن روسيا التي دفعت ثمن هذه الكارثة من أرواح مواطنيها لم تستجب لأي نوع من أنواع الابتزاز أو الحملات الإعلامية الصفراء، وأعلنت بصرامة أن رحلاتها الجوية تواصل التحليق إلى شرم الشيخ ومنها، ولم تتوقف رحلات الطيران الروسي إلى مصر، ولم يجر الحديث عن إجلاء المواطنين والسياح الروس من المنتجعات والمدن المصرية. في هذا الصدد تحديدًا أعربت وزارة الخارجية الروسية عن دهشتها من تصريحات الشركاء البريطانيين الذين يتحدثون عن معلومات حول وجود قنبلة على متن الطائرة الروسية تسببت في انفجارها، ويتجاهلون التعاون في مثل هذه الأمور، مفضلين استخدامها إعلاميًا، بدلًا من تبادلها في إطار مكافحة الإرهاب، في حال إذا كانت هذه المعلومات موجودة بالفعل. وإذا كانت المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قد وصفت ذلك بأنه "أمر صادم"، فقد أبدت دهشتها من أن تصريحات كهذه تصدر من مسؤولين على أعلى مستوى، وليس من خبراء ومهنيين في المجال المعني. هذا التصريح، اعتبره المراقبون رسالة مهمة إلى الجانب البريطاني الذي يفضل التعامل مع وسائل الإعلام، وتسخين الأجواء، واللعب على مشاعر الرأي العام، بدلًا من التعاون عبر القنوات الموجودة بين موسكوولندن في مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات. من جانبها أصدرت وزارة الخارجية المصرية بيانًا بصدد ردود الأفعال الغريبة من جانب بريطانيا، إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبو زيد يوم 5 نوفمبرالحالي إن قرار بريطانيا تعليق رحلاتها إلى شرم الشيخ تم اتخاذه بشكل منفرد، ولم تجر بهذا الشأن مشاورات مع مصر. غير أنه لفت إلى أن الجانب المصري قد تفاعل بإيجابية مع الهموم الأمنية وحالة القلق لدى الجانب البريطاني، وقام بتعزيز الإجراءات الأمنية في مطار شرم الشيخ، وذلك من منطلق اقتناع مصر بأن تعزيز الإجراءات الأمنية يعد إجراء مفيدًا وإيجابيًا بشكل عام، ويتم تفعيله بشكل دوري. وشدد أبو زيد على أن ذلك ليس مؤشرًا لأسباب سقوط الطائرة أو استباقًا بأي حال من الأحوال لنتائج التحقيقات الجارية، مشيرًا إلى أن التحقيقات تتم بكل شفافية ومهنية وبمشاركة خبراء دوليين. الأكثر إثارة للدهشة أن الولاياتالمتحدة سارت منذ وقوع الكارثة على خطى بريطانيا، إذ نقلت وسائل إعلامها الكبرى عن "مصدر مسؤول طلب عدم الكشف عن اسمه" أن الاستخبارات الأمريكية حصلت على معلومات جديدة تعزز فرضية انفجار قنبلة على متن الطائرة المنكوبة، وأن فرضية انفجار قنبلة على متن طائرة الركاب الروسية التي سقطت فوق شبه جزيرة سيناء يوم السبت الماضي، تعتمد على نتائج اعتراض مكالمات بين عناصر إرهابية. ولكن نفس المصدر، أكد أن ال "سي آي إيه" أو وكالات الاستخبارات الأخرى لم تتوصل بعد إلى أية استنتاجات نهائية، علما بأن المكالمات المعترضة تدفع بالتحقيق في حالات عديدة إلى اتجاه غير صحيح، لكن هذه المعلومات الجديدة عززت رأي الاستخبارات أن تنظيم "ولاية سيناء" وهو فرع لتنظيم "داعش" ينشط في شبه جزيرة سيناء، تمكن من نقل عبوة ناسفة إلى متن الطائرة. لكن المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية كشف عن اتصال تم بين وزير الخارجية سامح شكري ونظيره الأمريكي جون كيري، أكد خلاله الأخير على أن ما تم تناوله إعلاميًا بشأن تقديرات أمريكية لأسباب سقوط الطائرة لا يعبر عن موقف الإدارة الأمريكية التي لم يصدر عنها أي تصريح رسمي في هذا الشأن. وبمجرد الإعلان عن هذه المكالمة، أعلنت قناة (سي إن إن) الأمريكية أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أكد انحيازه أيضا إلى فرضية وجود قنبلة لينضم بذلك إلى هاموند وكاميرون، ويظهر وزير خارجيته كيري بمظهر المخادع أو المخدوع الذي يدلي بتصريحات عن رأي الإدارة الأمريكية، بينما البيت الأبيض يعلن عن عكسها تمامًا. من جهة أخرى، إذا نظرنا إلى التصريحات الروسية، سنجد أنها تتسم بالاتزان والعقلانية وضبط النفس، بل وبالحكمة. إذ رد الكرملين بشكل قاطع على "الحملة الإعلامية الصفراء" بأن وقوع الكارثة مرتبط بالإجراءات الروسية في سوريا لمكافحة الإرهاب. ونفى الكرملين هذه الفرضيات التي تتسم بالهستيريا السياسية. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لقائه مع وزير النقل الذي كان قد عاد للتو من القاهرة إنه "من المهم الآن مواصلة العمل على استقصاء وبحث كل الروايات والفرضيات، ومعرفة الأسباب الحقيقية لهذه الكارثة، لكي نعرف كيف نتعامل معها". وأكد الكرملين أيضا أنه يجري بحث كل الفرضيات، بما فيها فرضية العمل الإرهابي، ومع ذلك، تركت وسائل الإعلام التصريحات الرسمية عموما، والروسية الرسمية على وجه الخصوص، وأفسحت المجال للمصادر المجهولة، أو المصادر التي رفضت عدم ذكر اسمها، أو المصادر القريبة من فرق البحث أو مجموعات التحقيق. والأخطر أنه تم إفساح المجال أيضًا للخيال والفنتازيا السياسية والتقنية للصحفيين والساسة الهواة والمحللين الذين ليس لهم علاقة لا بالطيران، ولا بلجان وفرق البحث والتقصي. الكرملين يواصل ضبط النفس والتعامل بحكمة سياسية ومهنية مع كارثة الطائرة التي أودت بحياة 224 شخصًا. وكانت الأولوية للجانب الإنساني للحفاظ على حقوق الضحايا، ومشاعر وأحاسيس ذويهم. كل ذلك بالتوازي مع العمل الجدي لاستقصاء كل ما يحيط بالحادث بعيدا عن الهستيريا أو توجيه الاتهامات. وفي هذا الصدد بالذات قال رئيس هيئة الطيران المدني الروسية إن "هذا ليس وقت توجيه الاتهامات والبحث عن مذنب وإلقاء التهم جزافا، وإنما وقت البحث عن الأسباب الحقيقية لسقوط الطائرة". هذا التسخين المتعمد لوسائل الإعلام، وتضليل الرأي العام قبل ظهور نتائج البحث والتحقيق، دفع الكرملين مجددا للتقليل من أهمية الفرضيات التي أعلنتها واشنطنولندن حول أسباب تحطم الطائرة. وردا على "تهويمات" هاموند وكاميرون، اعتبر الكرملين أن أي تصريحات تصدر عن جهات غير مرتبطة بالتحقيق، هي تصريحات غير جديرة بالثقة. وكان من الواضح أن تصريحات الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف هي للرد على تصريحات هاموند الذي سمح لنفسه باستباق نتائج التحقيقات، وأعلن من نفسه خبيرا في مجال سقوط الطائرات هو ورئيس وزرائه. لقد كرر الكرملين مرة أخرى تصريحاته السابقة: "قلنا ذلك في السابق ونكرر مرة أخرى.. لا يحق لأحد باستثناء فريق التحقيق تقديم أية فرضيات أو التخمين بشأن أسباب الحادث.. إننا لم نسمع حتى الآن أي تصريحات من جانب فريق التحقيق. أما بالنسبة للتخمينات الأخرى بهذا الشأن، فنعتبرها معلومات غير مؤكدة". وأضاف أنه إذا كانت هناك جهات ما تملك بيانات ذات قيمة، فإن موسكو تأمل في تسليم هذه البيانات للتحقيق. بل وبعث بيسكوف برسالة موسكو المهمة، مؤكدا على أن "الطائرات الروسية تواصل التحليقات من وإلى شرم الشيخ". ولاحظ مراقبون أن الغرب يحاول نقل معركته مع روسيا إلى الأراضي والأجواء المصرية، واعتبر البعض هذا التوجه مرتبط بملفات يحاول الغرب تصفيه حساباته فيها مع روسيا. غير أن الرئيس الروسي بوتين لا يزال يلتزم الحكمة والمهنية وعدم الانزلاق إلى "سقطات سياسية" أو "أمنية" في ظل الهستيريا السياسية التي لم تصب فقط وسائل الإعلام، بل وأيضا كبار الساسة. والملفت أن عبارة بوتين لوزير النقل الروسي: "المهم الآن هو البحث عن الأسباب الحقيقية لكارثة الطائرة لكي يتسنى لنا التعامل بشكل مناسب معها". هذه الرسالة المهمة، موجهة إلى وسائل الإعلام "الصفراء"، وإلى أطراف تمارس هواية خلط الأوراق لأهداف سياسية معينة، وإلى من هم وراء الكارثة في حال جاءت التحقيقات لترجح رواية على أخرى. هذا وتتجه غالبية المؤشرات إلى ترجيح فكرة أن الغرب يتجه لتسييس كارثة الطائرة الروسية، ضاربا عصفورين بحجر واحد: الضغوط على القاهرة في ملفات إقليمية وداخلية، وتصفية الحسابات مع موسكو في ملفات إقليمية ودولية. غير أن روسيا ترى أن المهم الآن، ليس إلقاء التهم، وتوجيه الاتهامات وتبرئة هذا الطرف أو ذاك أو اتهام هذه الجهة أو تلك، بل الوقوف على الأسباب الحقيقية لتفادي أحداث مشابهة، والتعامل الجدي مع تلك الأسباب في حال ترجيح هذه الرواية أو تلك. في سياق متصل، يتكشف الكثير من الحقائق ليس في مسألة سقوط الطائرة، وهو الأمر الذي يمكن الحديث عنه بعد ظهور نتائج التحقيقات، بل في تداعيات الحدث والحرب الإعلامية التي يسعى الغرب لإشعالها، وتورط مسؤلين كبار بحجم كاميرون وأوباما وهاموند في بتصريحات غير مسؤولة، وإثارة "لعاب وسائل الإعلام الصفراء". ومن أجل الموضوعية، فالكثير من التقارير يشير إلى جزئيات غير مفهومة وغير واضحة في علاقة بريطانياوالولاياتالمتحدة بهذا الحادث تحديدا، والإسراع المثير للتساؤلات في تبني فرضية محددة، على الرغم من أن روسيا صاحبة الشأن تتعامل بحرص وحذر، تحسبا للألاعيب الغربية المعروفة، وبالذات في المجالات الأمنية، وفي الوقت نفسه لا تستبعد أي فرضية، معلنة عن حقها في التعامل معها، ولكن بعد ظهور نتائج التحقيقات.