أظهرت التحركات الأخيرة لطهرانودمشق أنها غير راضيتين عن نتائج لقاء فيينا الموسع الذي ضم 17 دولة، ولا عن بيان النقاط التسع الذي صدر عنه. وأصدرت كل منهما تصريحات تعكس عدم الرضا، سواء بشأن المواقف الروسية أو بشأن وضع الرئيس السوري بشار الأسد في عمليات التسوية ومراحلها. نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد رفض، خلال زيارته إلى طهران في 3 نوفمبر الحالي، فكرة فترة انتقالية لحل الأزمة في بلاده قائلا إنها موجودة فقط "في أذهان من لا يعيشون على أرض الواقع"، مشيرا إلى أن "دمشق تريد حكومة موسعة وحوارا وطنيا، وعملية دستورية ولا نتحدث نهائيا عما يسمى بفترة انتقالية". بل وذهب إلى أن دمشق "لم تتلق أي شيء رسمي فيما يخص لقاء الحكومة السورية مع مجموعات المعارضة". أما إيران وللمرة الأولي خلال علاقتها في روسيا في ظل الأزمة السورية، فقد أظهرت إلى العلن شكوكها في الموقف الروسي تجاه سوريا والرئيس بشار الأسد، وكذلك الموقف من حزب الله، منذ بدء العمليات العسكرية الجوية الروسية على الأراضي السورية، إذ اعتبر القائد العام للحرس الثوري الإيراني، اللواء محمد علي جعفري، أن الروس لا يشتركون بموقف واحد مع طهران حيال هذين الملفين. وذهب العسكري الإيراني، كما نقلت وكالة "مهر" الإيرانية شبه الرسمية، إلى أن "جارتنا الشمالية روسيا تساعد أيضا في سوريا، ولكنها غير سعيدة بالمقاومة الإسلامية، ولكن على أي حال فإنها تقدم المساعدات على أساس المصالح المشتركة، ولكن ليس من الواضح أن مواقف روسيا تتطابق مع إيران بشأن الرئيس السوري بشار الأسد". بينما أكد نفس المسؤول العسكري الإيراني لوكالة "فارس" شبه الرسمية أيضا، أن بلاده "لا ترى بديلا" للأسد وتعتبره "خطا أحمر وتجاوزه ممنوع". هذا الموقف كان متوقعا من طهران التي رفعت سقف التوقعات من روسيا، وروَّجت للموقف الروسي باعتباره موقفا يدعم الأسد شخصيا، وأن التواجد الروسي في سوريا جاء لحماية حكومة دمشق، متجاهلة أي مصالح روسية، سواء أمنية أو اقتصادية أو جيوسياسية. وذلك لأن اعتراف طهران بمصالح روسيا الإقليمية والدولية، سيأتي على حساب السيناريوهات الإيرانية في سوريا والتي ترتكز إلى مصالح أمنية واقتصادية وجيوسياسية للعب بملفات المنطقة توسيعا لنفوذها، حتى وإن كان ذلك على حساب روسيا أو أي دولة أخرى في الشرق الأوسط. وعلى الجانب السوري الرسمي، حافظت دمشق على اتزانها، ولم تعلن عن عدم رضائها إلا بكلمات قليلة مقتضبة مرت مرور الكرام ولم يلتفت إليها أحد، حفاظا على العلاقات بين الطرفين الروسي والسوري الرسمي. لكن دمشق كانت دوما تستثمر كل المواقف الروسية لا لصالح وحدة سوريا أو الحفاظ عليها كدولة علمانية غير قابلة للتقسيم. بل ورفعت دمشق والإعلام السوري التابع للنظام سقف التوقعات من روسيا لدرجة أنهما أعطيا انطباعا بأن كل تحركات موسكو ومناوراتها السياسية والدبلوماسية تهدفان إلى حماية الأسد شخصيا، ما أثار الشكوك حول الموقف الروسي. كان من الواضح أيضا أنه بمجرد أن تبدأ روسيا الحوارات الموسعة مع الأطراف الكبرى الأخرى، سوف تترك كلا من طهرانودمشق في "العراء"، وهما اللتان تختبئان خلف ظهر موسكو، وتدفعان بها إلى الواجهة والمواجهة، وتحمل الضربات الأولي، سواء على المستوى الإعلامي والحملات الإعلامية الموجهة، أو على المستوى الأمني والاقتصادي. لقد خرج لقاء فيينا الموسع ب 9 بنود في غاية الأهمية، لم يذكر اسم الأسد في أي منها، بينما كانت إيران مثل أي دولة أخرى شاركت فيه. علما بأن الجميع يدرك أن اتفاق موسكو وواشنطن حول بعض البنود الجوهرية والرئيسية سوف يقرِّب المسافات بين اللاعبين الإقليميين الأكثر تطرفا في الأزمة السورية. لقد خرج بيان فيينا بالنقاط التسع التالية: 1-وحدة سوريا واستقلالها وسلامة أراضيها وهويتها العلمانية أمور أساسية. 2-مؤسسات الدولة ستظل قائمة. 3-حقوق كل السوريين يجب حمايتها بصرف النظر عن العرق أو الانتماء الديني. 4-ضرورة تسريع كل الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب. 5-ضمان وصول المنظمات الإنسانية لكل مناطق سوريا وسيعزز المشاركون الدعم للنازحين داخليا وللاجئين وللبلدان المستضيفة. 6-الاتفاق على ضرورة هزيمة تنظيم "داعش" وغيره من الجماعات الإرهابية كما صنفها مجلس الأمن الدولي واتفق عليه المشاركون. 7-في إطار العمل ببيان جنيف 2012 وقرار مجلس الأمن الدولي 2118 فإن المشاركين وجهوا الدعوة للأمم المتحدة لجمع ممثلي الحكومة والمعارضة في سوريا في عملية سياسية تفضي إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية على أن يعقب تشكيلها وضع دستور جديد وإجراء انتخابات. وينبغي إجراء هذه الانتخابات تحت إشراف الأممالمتحدة بموافقة الحكومة وبالتزام أعلى المعايير الدولية للشفافية والمحاسبة وأن تكون حرة نزيهة يحق لكل السوريين ومنهم المغتربون المشاركة فيها. 8-سوريا هي التي تملك وتقود هذه العملية السياسية والشعب السوري هو من يحدد مستقبل سوريا. 9-المشاركون ومعهم الأممالمتحدة سيدرسون ترتيبات وتنفيذ وقف لإطلاق النار بكل أنحاء البلاد يبدأ في تاريخ محدد وبالتوازي مع هذه العملية السياسية الجديدة. وبعد ذلك توجه المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا إلى دمشق لبحث آفاق تنفيذ بعض بنود البيان. ولكن دمشق لم ترد على أي شئ، بل توجهت مباشرة إلى طهران لتظهر تلك التصريحات الإيرانية – السورية المثيرة، وتبدأ وسائل الإعلام في كل من طهرانودمشق في تحريك "رواية" أن الموقف الروسي لم يعد متفق مع معهما في بعض الأمور. علما بأن موسكو كان موقفها واضحا منذ البداية ولكن عملية "رفع سقف التوقعات" التي قامت بها كل من طهرانودمشق أربكت الأمور، وأظهرت روسيا بأنها "فتوة الحارة" الذي يجب أن يحميهما ويلبي مطالبهما. بينما بدأ الإعلام الغربي الحديث حول "تغير الموقف الروسي" إزاء الأزمة السورية عموما، وبالنسبة لمصير الأسد على وجه الخصوص. في كل الأحوال، لقد أدلت الخارجية الروسية بتصريحات مهمة على لسان المتحدثة الرسمية باسمها ماريا زاخاروفا، التي أعلنت أن بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة لا يعتبر أمرا مبدئيا لروسيا. وأوضحت مجددا أن "مصير الأسد يجب أن يحله الشعب السوري... ونحن لا نحدد إن كان على الأسد الرحيل أو البقاء". ومن جهة أخرى قالت أيضا، إن "هناك توافقا جزئيا بين روسيا والولايات المتحدة والسعودية حول المعارضة السورية التي يمكن إجراء مفاوضات معها"، فهل يمكن أن نرى ذلك في مشاورات "موسكو 3" حلال الأسبوع المقبل، أم بعدها في لقاءات جنيف المتوالية، وماذا عن مواقف إيران في الفترة المقبلة مع تقدم المشاورات والمباحثات المبنية تحديدا على بيان فيينا؟ إن تصريحات الخارجية الروسية المذكورة أعلاه ليست جديدة، ولا تتضمن أي تغير أو تحول في الموقف الروسي. كل ما هناك أن دمشقوطهران كانتا تقتطعان التصريحات الروسية، وتتعاملان بالتجزئ مع المواقف الروسية المعلنة، وتطلقان وسائل إعلامهما لتشويه الموقف الروسي. لقد صدرت تصريحات مشابهة، بل أكثر دقة من رئيس الوزراء الروسي دميتري ميدفيديف في منتصف أكتوبر الماضي قال فيها، عبر التلفزيون الروسي الرسمي، إن "روسيا تدافع عن مصالحها القومية في سوريا لا عن أشخاص بعينهم، وأن بقاء بشار الأسد في السلطة ليس مسألة مبدئية بالنسبة إلى موسكو.. ونحن بالطبع، لا نقاتل لصالح قادة محددين، وإنما ندافع عن مصالحنا القومية، وأن مسألة الرئاسة السورية أمر يقرره الشعب السوري". وشدد في الوقت نفسه على ضرورة أن لا يصل تنظيم "داعش" إلى الحكم في سوريا، وأن تتاح لسوريا "سلطة حضارية". هذا التصريح، الذي جاء قبل زيارة الأسد إلى موسكو بأكثر من أسبوع، أثار الكثير من التساؤلات حول نية روسيا مناقشة "مصير بشار الأسد" ضمن حزمة من الإجراءات التي تسمح بإبعاده عن السلطة خلال فترة زمنية محددة، أو الحصول على ضمانات لأمنه وأمن أسرته من جهة، وأن لا تصل إلى السلطة قوى متطرفة تعادي مصالح روسيا من جهة ثانية، وأن تحجز موسكو لنفسها مكانا في أي تسويات أو مشروعات مستقبلية في سوريا من جهة ثالثة. عقب تصريحات الخارجية الروسية بشأن الأسد، اقتطعت وسائل الإعلام الغربية جملة "بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة لا يعتبر أمرا مبدئيا لروسيا". وفي الوقت نفسه أعلنت كل من دمشقوطهران غضبهما، على الرغم من أن هذه التصريحات صدرت عن موسكو في السابق وعلى لسان الرجل الثاني في مركز القرار الروسي. غير أن الخارجية الروسية خرجت مرة أخرى للإدلاء بتصريحات إضافية لتوضيح الأمور، جاء فيها أن "موقف موسكو من الرئيس السوري بشار الأسد لم يتغير". وأضافت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية عبارت أخرى مهمة للغاية.. " الموقف الروسي إزاء التسوية السورية لم يتغير"، و"الأهم مبدئيا لنا هو الحفاظ على الدولة السورية"، ثم شددت على "نحن لا نحدد إن كان على الأسد الرحيل أو البقاء". هذه العبارات توكد مرة أخرى أن موسكو لم تغير موقفها لا من بشار الأسد، ولا من تسوية الأزمة السورية. ولكن "تصورات" كل من دمشقوطهران تبعدهما عن الواقع والآفاق الحقيقية للتسوية في سوريا، ما يعكس أمرا في غاية الخطورة، وهو أن الأسد قد يصبح قريبا موضع خلاف بين كل السوريين، ما سيسهل إبعاده عن المشهد في أحسن الأحوال. ومن الواضح أن هناك تنسيقا روسيا – أمريكيا في إطار حزمة من الإجراءات التدريجية وفقا لبيان فيينا، بما في ذلك مصير الأسد، وهو ما لا يروق لا لدمشق ولا لطهران.