أنتمى عمريا إلى آخر الأجيال التى كان عبد الحليم حافظ قيثارتها الخالدة بغير منافس ولا منازع، ومع ذلك مات حليم ولم أعرف بالنبأ الحزين ولا بركان العواطف المشبوبة الذى فجره إلا بعد مرور نحو أسبوعين، فقد كنت آنذاك أكابد أول تجربة سجن فى حياتى عقب انتفاضة الشعب فى 18 و19 يناير 1977، ولم يكن هذا حال المئات من رفاقى المساجين (كانوا تقريبا كل عقل مصر وضميرها) فالجميع علم بالخبر عند بثه، عدا بضعة فتيان وشباب، منهم العبد لله، شاءت إرادة المباحث أن يحشروا فى جوف سجن القلعة المملوكى الرهيب (ممكن تترحم عليه الآن إذا قارنته بسجون أخرى بناها المماليك المحدثين) حيث لم يكن يتاح لى الكلام مع أحد ولا مغادرة زنزانتى الانفرادية المعتمة الرطبة سوى مرة أو مرتين فى اليوم للذهاب إلى المرحاض، وعندها كنت أختلس فى طريق الذهاب والعودة القصير جدا (أربع أو خمس خطوات) نظرة إلى ما تيسر من أفق سماء الوطن المقطوع امتداده والمجرحة صورته البهية بجدران السجن.. بعدها وقبلها كان الزمن يموت تماما وتفقد جثته أية ملامح فيستحيل تعاقب وتداعى الثوانى والدقائق والساعات والأيام شيئا مبهما يستعصى على العقل المحبوس إدراكه. ما علينا.. أعود إلى نبأ موت عبد الحليم، فقد وشت به علامات وإشارات تسربت إلى زنزانتى رغما عن غباوة المباحث وسماكة وقساوة الجدران، غير أننى للأسف لم أكن فى حال تسمح لى بالتقاطها وفهم دلالتها، لكنى استرجعتُها بعد ترحيلى من «القلعة» إلى سجن «استقبال طرة» حيث عرفت هناك الخبر، ومن ثم ربطت بينه وبين ما سمعته وأنا ممدد منهك القوى فوق الفرشة البائسة القذرة التى هى كل محتويات ومستلزمات الحياة فى الزنزانة رقم (21).. لقد كانت الإشارات والعلامات كلها سمعية طبعا، ربما أظرفها وأكثرها كوميدية ما قاله لى ضابط أمن دولة نطع زارنى فى الزنزانة بعدما أبلغه الحراس بأننى نفذت إضرابا عن تناول الطعام الفاخر جدا (هذه ليست سخرية، بل حقيقة يضيق المجال عن شرح سببها) الذى كانوا يقدمونه لمساجين القلعة، فقد أخذ الرجل المباحث يقول لى كلاما لزجا سخيفا معناه أن امتناعى عن الأكل لن يؤثر فى شىء ولن يجبرهم على ترحيلى من هذا القبر إلى سجن آخر عادى، ولما غاظه أننى لا أرد على هلفطاته ولم أتحرك من رقادى (فى الواقع لم أكن أقوى على النهوض) هتف بالسخافة نفسها: «إنت ح تعملى فيها عبد الحليم حافظ.. طيب خليك كده لغاية أما تروح فى ستين داهية زيُّه..» ثم قفل خارجا وصفق الباب الثقيل خلفه!! أما أجمل الإشارات وأحلاها فقد كانت هذا البستان من الشدو الشجى الذى تفجر فجأة خارج السجن وغافل الحراس وهاجم بوهن مسامعى، وأنا قابع فى العتمة، لقد كان بإمكان أذنى أن تلتقط فى عمق الليل صوت حليم وهو يتسلل (بكثافة غير عادية) آتيًا من الحى الشعبى الذى تقع القلعة فى حضنه، وحتى الآن ما زالت ذاكرتى تحتفظ بأطلال نغمات أغنيات رائعة، كنت أستكملها همسا، لكى تعيننى على احتمال هذا الغياب القسْرى عن زخْم الدنيا.. مثلا همهمت مرة: على قد الشوق اللى فى عيونى يا جميل سلّم ده أنا ياما عيونى عليك سألونى وياما بتألّم وبخاف لتصدق يوم الناس واحتار وأوصف للناس الجنة وأنا فى النار. غير أن أبهى وأروع ما وصلنى وأنا فى الزنزانة وقتها، شدو عبد الحليم بكلمات خالنا الكبير والمبدع الاستثنائى عبد الرحمن الأبنودى: عدّى النهار / والمغربية جاية / تتخفى ورا ضهر الشجر وعشان نتوه فى السكة / شالت من ليالينا القمر وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها / جانا نهار ماقدرش يدفع مهرها يا هل ترى الليل الحزين / أبو النجوم الدبلانين / أبو الغناوى المجروحين يقدر ينسيها الصباح / أبو شمس بترش الحنين؟ أبدأ.. أبدأ بلدنا للنهار / بتحب موال النهار لما يعدى فى الدروب / ويغنى قدام كل دار والليل يلف ورا السواقى / زى ما يلف الزمان وعلى النغم.. وعلى النغم تحلم بلدنا بالسنابل والكيزان تحلم ببكرة / واللى ح يجيبه معاه تنده عليه فى الضلمة / وبتسمع نداه تصحى له من قبل الأدان تروح تقابله فى الغيطان فى المتاجر والمصانع والمعامل والمدارس والساحات طالعه له صحبة صفوف.. جنود طالعه له، رجال، أطفال، بنات كل الدروب واخدا بلدنا للنهار لما يعدّى فى الدروب / ويغنى قدام كل دار.